حِبال الذِّكرى

يكتبها : محمد فيض خالد

مُنذ زمن تعوّدَ الجلوس في هذا المُستَراح الهانئ ، اتخذَ مطعم المحطة وجهةً له ساعة قَدِم من قريتهم ، مُلتحِقا بإحدى الوظائف العُليا في المحروسةِ ، يستفتح يومه بطبقهِ المُفَضّل ، هنا يختلف المشّهد جُملة وتفصيلا ، يُتَابِع ما يجري في صمتٍ، وابتسامة رقيقة تُزايلُ شفتيه ،فجأة اضطرب قلبه وزادَ الوجيف ، انبسطت أسارير وجهه الجامد ، غَاصَ في سُحِبِ الدّخانِ المتموج من سيجارهِ المُشتعل ، سريعا تدافعت الذكريات بعد أن جرّ حبلها المُتراخي ، اعتلجت في رأسهِ أياما تقضّت ، تهاوت جفونه مُستسلمة ، استسلام الأفعى لعزيمةِ الرّفاعي ، ظهرَ وكأنّه ينوء تحتَ حملٍ ثقيل ، هنالِكَ في مجاهلِ الصّعيد على مشارِفِ الصّحراءِ الغربية تُرابط قريتهم ، حباها الله جمالًا خلاّبا ، وبقدرِ الجَمال يُزاحِم الفقر أهلها البُسطاء ، لم يدع مكانا لغيرهِ ، غير أنّ وميضا من عَبثِ الطفولة البرئ ، يُلوحُ من ثنايا الغَبش ، سرت في جسدهِ قشعريرة ، تشعّبت في شِعابِ نفسهِ غِبطة وراحة ، فتقبّلها بقبولٍ حسن ، رأى نفسه وقد افترشَ الأرضَ حول الطبليةِ ، في غمرةٍ من تصايح إخوته ، يُطالِع وجه أمه الصّبوح ؛ يشعّ نضارة ورواء ، تأمره أن يسعى في احضار “الجبن” ، كانَ مجرد التلفّظ بهذا الطلب دافعا قويا للتململِ ، يشعر ساعتئذٍ وكأنّ الدّهر قدّم له كأس شقائه ، يسير بعد لأيٍ مُستخذيا مُتخاذلا ، عبوس الوجه جهوما ، كمن يُعالِج سكرة الموت ، يُغمغِم في مرارةٍ ، تزيد من خيبةِ أمله ، يتحسّس كفّه الصّغير في رهبةٍ وتحسّر ، وهكذا يفعل كُلّ نوبة ، على بُعدِ خطواتٍ منهُ يرقد ” بلاص ” كبير ، تسبح في أحشائهِ حبات “الجبن القديم “، توسّل لأمهِ ألف مرةٍ وهو يكبح جِماح دموعه ؛ أن تعفيه من هذه المهمة الشّاقة ، التي لا يجد دونها مَصرِفا ، إنّه لا يطيق رائحة ” المشّ” ولا وهج نيرانه الحارقة التّي تَكوي جلده ، لكنّها تُعاجله بصرامةٍ ، فمن ذا يقوم مقامه ، وهو أكبر إخوته ، اعترف أكثر من مرةٍ والاشمئزاز يملأ اخاديد وجهه البرئ ؛ فهذا ” البلاص ” عدوه اللّدود ، سيظلّ يكرهه ، حتى يفرق الله بينهما ، احتالَ كثيرا في التَخلّص منه ، لكنّه تَراجع في الأخيرِ عن حِيلتهِ ، فامثاله من فقراءِ الرِّيفِ ، لا يملكون حُرية الاختيار ، خاصة مع فقرهم المُتقع الذي لا يرحم ، تأوه وهو يمضغ الصّمت ، مَدّ يده امسك بكوبِ العصير البارد ، رَشَفَ رشفات خِفاف ، وارسل دعواته لأمهِ الرّاحلة ، مُترحِما على أيامِ ” البلاصِ”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى