وأصبحت طيفا

مناسك إبراهيم | السودان

تَجلسينَ كعادتكِ أمامَ أُختي لتُلاعبَ لكِ خُصلاتِ شَعركِ البني الداكن، تَنظرينَ إليّ وتبتَسمينَ فأبتسمُ أنا أيضاً، نظرتْ إليكِ أُختي وقالت: “في رأيكِ هل سيكون صبياً أم فتاة؟”
تُجيبنها بإبتسمتكِ الجميلة: “لا أدري، ولكن أنا على يَقينٍ أن هذا الطفلَ سيكونُ شقياً جداً، سوى أكانَ صبياً أم فتاة”
تنظرُ إليّ أختي وتسألني نفس السؤال، فأُجيبها: “سيكونُ الامرُ رائعاً في كلتا الحالتينِ؛
فإذا كانت فتاة ستكون جميلة جداً مثلَ والدتها، واذا كَانَ صبياً سيكون شهماً وشجاعاً مثلي”
مُنذُ زواجنا وأنا أراكِ إنسانةً مختلفةً عن جميعِ البشر، ليسَ لأنكِ زوجتي، بل لانكِ فعلاً مختلفة عن الجميع، لم أكن أعرفكِ من قبل، ولكن حين قدمتُ الى قريتي وأخبرتُ والدتي أنني أرغب في الزواج، تهلل وجهها و أول ما قالته لي: “خيرٌ ما فعلتَ يا بُني،
وأنا عندي لكَ فتاةٌ مناسبة، وصدقني لن تَجد فتاةً مثلها، ولو طوفتَ العالمَ أجمع”
والآن علمتُ أن أُمي كانت مُحقةً فيما قالته عنكِ، لا أُنكرُ انتي ارتبطتُ بعدة فتياتٍ قبلكِ تحت مسمى الحب، ولكن أنتِ مميزة، وكما قُلتُ لكِ آنِفاً أنكِ مختلفة عن الجميع.
نهضتِ عن مكانكِ وذهبتِ لتحضير طعامِ الغداءِ مع أمي، لم تمضِي خمسُ دقائقٍ الا وأتت إليّ أمي تقول بأنفاسٍ متقطة: ” إن زوجتك سوفَ تضعُ الآن”
قولت لها بتَعجبٍ: “ولكنها لم تُكمل شهور حملها بعد!”
-“نعم يا بُني، ولكن يبدو لي أنها ستضعُ في الشهرِ السابع”
أحضرتُ سيارتي بسرعة وصعدنا متجهينَ نحو أقربِ مشفى، كنتِ تأنينَ بصوتٍ خافت، تندهينَ عليّ وتطلبينَ مني أن أُسرع، دلفنا إلى المشفى بسرعة، أخذتكِ الممرضةُ معها وأدخلتكِ غرفةَ العمليات، ظللنا جالسين في إنتظاركِ، كنت متوتراً جداً، كنتُ أدعوا الله أن تكوني بِخير، ويكون طفلنا الأولُ بخيرٍ أيضاً، بعد أكثرِ من ساعتين، خرجَ الطبيب- أو كما أقول “البشيرُ أو النذير”- نَظرَ إلينا وقال: “مُباركٌ لكم المولود، لقد أنجبتْ فتى وهو بصحةٍ جيدة” تنفستُ الصعداءَ، وخررتُ ساجداً لله، بعدها سألتُ الطبيبَ عن حالتكِ الصحية، اخبرني انكِ أيضاً بِخير، ولكن لن نستطيعَ أن نراكما إلا بعدَ أن تتمَ بعضُ الإجراءات الروتينية.
بعد نِصفِ ساعة رأيتُ ثلاثةَ أطباء يدخلونَ إلى الغُرفةِ التي تنامينَ فيها، بعد دقائق خرجوا ووجوههم مصفرةَ، إقتربَ مني نَفسُ ذلكَ الطيب وقال بوجهٍ حزين: “للأسفِ يا سيدي، لقد تُوفي المولود!”
تسمرتُ في مكاني وإسودت الدُنيا في وجهي، جثوتُ على قدمي وضعت والدتي يدها على كتفي لتُخفف عني الألم، أقتنعتُ أن الامر قضاءٌ وقدر.
أخبرني أن الجثمانَ سيخرجُ بعد قليل، خرجَ ولكن لم يَكُنْ جثمان واحداً، نظرتُ بتعجبٍ وقلت: “لِمنْ الجُثمانُ الثاني؟!”
أجابني: “لقد ماتتْ زوجتكَ بعد أن مات المولود”
ضحكتُ بصوتٍ عال وقلت: “أجننتَ أيها الطبيب؟
ألا تعلمُ انها كانت معنا قبل قليل؟
ألا تعلم انها كانت متشوقةً لتُصبحَ أمٌ؟
قُل لي إنكَ لا تعلم، وقُل لي إنها لم تَمُت…أرجوكَ”
هزَّ رأسه بحسرةٍ وقال: “أحسنَ اللهُ عزاءكم”
نظرتُ اليه والدمعُ يجري على خدي وقلت: “هي لم تَمت، مِتُ أنا!
نعم هي حيةٌ عند اللهِ، وأنا ميتٌ في هذه الدُنيا! هي أرتاحت الى الأبد، وأنا سأتعذبُ للأبد! فيسامحها الله”
تركني الجميعُ جاثياً على رُكبتي، أنظرُ اليهم بوجهٍ خالي من التَعابير، أتذكرُ جلساتنا، أحاديثنا، وكُل شئ، لقد كُنتِ معي هذا الصباح، والآن أصبحتِ طيفاً، الى اللقاءِ إلي حين أن أصبحَ طيفاً مثلكِ؛ ليتقي طيفانا ذاتَ يوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى