أشواك لا تجرح
خالد رمضان | كاتب مصري
ما أصدقك يا شوقي حين قلت:
وكنتُ إذا سألت القلب يوما
تولى الدمع عن قلبي الجوابا
ولي بين الضلوع دم ولحم
هما الواهي الذي ثكل الشبابا
ولو خُلقت قلوب من حديد
لما حملت كما حمل العذابا
ولا ينبيك عن خلق الليالي
كمن فقد الأحبة والصحابا
ها أنت ذا تنطوي في غرفتك وحيدا شريدا، تصوب عينيك نحو زاوية في أعلى الغرفة، شاخصا ببصرك لا يرتد إليك طرفك، وكأن الدنيا قد خلت إلا لك، فتراها فيفاة شاسعة ليس لها نهاية، تعبث فيها الريح فلا تسمع إلا حفيفها، ولا ترى إلا غبارها الذي يؤذي العيون، وسرابها الذي يترجرج في عينيك حتى ظننته ماء تروي به غلتك، فلما دنوت منه ما زادك إلا لهيبا وعذابا، ثم يرتد إليك البصر وهو حسير ، وتحيط بك الظنون والغيوم وأنت جاثم على سريرك لا ترى إلا نفسك، ولا تسمع إلا همسك.. إن تلك العزلة القاتمة، وحياة التوحد تلك التي ترسف في أغلالها ليست وليدة اللحظة، إنما تسللت إليك بعدما عبرت طرق الهجر والنكران، وباءت باليأس والخذلان حتى من أقرب الأهل، وأخلص الأقران .
يقول شوقي:
وكنت إذا سألت القلب يوما
تولى الدمع عن قلبي الجوابا
أيَّ سؤال تسأل أيها الأمير؟! إنه سؤال يحمل بين طياته ٱهات الألم والحسرة جرّاء فقد الأحبة وقت حاجتك إليهم، فتظلم الدنيا في عينيك ، وتضيع الكلمات من على شفتيك، مبهوتا مبغوتا بما لم تتوقعه، أو يخطر لك ببال، ثم يستطرد شوقي قائلا:
ولي بين الضلوع دم ولحم
هما الواهي الذي ثكل الشبابا
وكأنه يشكو كثرة الهموم والأحزان لأن ذلك القلب الضعيف الساكن بين أضلعه ما هو إلا دماء حارة، وشرايين نابضة بالحياة ، لا يقوى على صفعات الحياة، أو ويلات الزمن، أو تلك النصال التي تتعاقب خلف النصال من صروف الدهر، وكتائب الأحزان، ثم يقر الرجل بحقيقة مؤلمة وهي أن أشد أنواع البلاء أن تفقد الأحبة والصحابا، وإن كان لا يعني بفقدهم نهايتهم المعهودة، وإنما يعني فقدهم عند حاجتك إليهم، أو ظلمهم لك، كما قال الشاعر :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند
فكأنك وسط اليم وقد انقطعت بك سبل النجاة، فتضرخ بأعلى صوتك، والماء يلطم فاك فتغص به، ولا يخرج صوتك أعلى رأسك، وواحسرتاه فحولك الكثير والكثير ولا تمتد إليك يد واحدة، والماء يتخلل جوفك، وتكاد تنقطع أنفاسك، ولا أحد يبالي!
أين أهلي ورفاقي ؟!
أين أصدقائي وزملائي ؟!
صدق من قال:
رحم الله الشدائد عرفتني عدوي من صديقي.
وها أنا ذا أسمع صوتا بداخلي ينهرني، ويعنفني قائلا :
أنت سبب شقائك وبلائك .
يااااا ألله
أأنا سبب شقاء نفسي ؟!
كيف ذلك ؟
نعم، أنت من وضعت ثقتك عند من لا يستحقها، ومنحتها من أهانها ولم يعرف قدرها، فكنت عندهم أهون من العبيد في سوق النخاسة.. إن تلك الوحدة، والعزلة خير بالفتى من حياة التيه والخسران بين أصحاب النفوس الضعيفة أو المريضة.. لقد جئت دنياك وحيدا، وستخرج منها وحيدا، وكأنها رسالة سماوية بألا تركن إلى أحد، أو تعتمد على غيرك.. فقط تعلق بمن عنده مفاتح الدنيا والآخرة. فقد جُبل الناس على الجحود والنكران، فلن يحبك أحد أكثر من نفسه كما قال الشافعي:
فما كل من تهواه يهواك قلبه
ولا كل من صافيته لك قد صفا
وقديما قالوا : يؤتى الحذر من مأمنه.. ونحن لا ننادي بالعزلة والانطوائية؛ فالناس جميعا كل منهم عون للٱخر، ولكن احذر فرط الثقة فيمن ليس أهلا لها فتدفع الثمن باهظا.. وقد قال صلى الله عليه وسلم: “إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله”
إن وقوفك على أعتاب الغير، أو ارتمائك في أحضانهم محتاجا لهم كالصادي الذي ارتوى بالماء المالح لا يزيده إلا عطشا ونهما.
لو صاحب الإنسان في دنياه جبريلا
لم يسلم المرء من قال ومن قيلا
فارحم نفسك الهذيلة، وأعصابك النحيلة أن تزج بهما في مهاوي الردى، وامض في طريقك المستقيم ضاربا بهؤلاء المثبطين، والنمامين، والمخذلين، والمتسلقين، والمستغلِّين، والمستغلّين، والحاقدين والحاسدين، والمتشدقين، والمتملقين، والمنافقين، والمتطفلين، والفاسدين والمفسدين، والضالين، والمضلين عُرضَ الحائط.. كما قال تعالى: “عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذ اهتديتم “.. وفي الأخير أختم بقول الشاعر:
دعني وحيدا أعاني العيش منفردا
فبعض معرفتي بالناس تكفيني
ما ضرني ودفاع الله يعصمني
من بات يهدمني فالله يبنيني