دروس ربانية من المدرسة الرمضانية (3)

رضا راشد | باحث بالأزهر الشريف

 الصوم وقهر النفس

يعيش اﻹنسان من نفسه في عذاب دائم ؛ ذلك أن هذه النفس جبلت على حب أشياء لا تملك التخلى عنها ، وهذه اﻷشباء التى جبلت النفس على حبها هي غرائز وشهوات للجسد كالطعام والشراب والغريزة الجنسية وحب التملك …إلخ وهكذا.
ولا تزال النفس البشرية تتمادى في غيها حتى تورد صاحبها المهالك طالما كان مستجيبا لها ،خاصعا لشهواتها.
ولم لا ؟أفليست هى التى أغرت قابيل بقتل أخيه فكان أول قتل في اﻷرص بتسويلها 《فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من النادمين》..ولهذا علمنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ بالله من شرور أنفسنا .ولا يستعاذ بالله من شيء إلا كان شديدا خطره.

وبهذه الغرائز يكون للنفس سلطان آمر على اﻹنسان لا يستطيع في أحيان كثيرة أن يعصيه ،بله أن يتمرد عليه، فكلما أمرته أمرا سارع إلى تلبيته طوعا أو كرها متوهما :
_أنه لا يملك الرفض .
_وأنها بسلطانها عليه لن تسكت إزاء رفضه.
_وأن لمشتهياتها حدودا ولغرائزها أمدا تنتهى إليه ونا عليه إلا أن يستجيب لها حتى تنتهى مطالبها، وبذلك يستريح من إلحاحها.

وما يدري المسكين:
_أنه لا حدود لمشتهياتها ولا منتهى لمطالبها .
_وأنه يستطيع أن يفلت من إسار نفسه وأن يفك عنه قيدها .
_وأنها -حين يتمرد عليها -لن تملك إلا اﻻستجابة له واﻻستكانة ﻹرادته .
_وأن :
النفس راغبة إذا رغبتها
وإذا ترد إلى قليل تقنع .
_وأن :
النفس كالطفل إن تهمله شب على
حب الرضاع ، وإن تفطمه ينفطم
°°°
هكذا يعيش المرء مع نفسه في صراع دائم حيث يكون لها الغلبة فيه غالبا، حتى إذا كان رمضان وكتب على المرء فيه الصيام، وفي الصيام يمنع المرء فرضا من شهوتى البطن والفرج يوما كاملا ،أيا كان ذلك اليوم:طويلا أم قصيرا، حارا أم باردا ، مستريحا فيه أم متعبا ومرهقا …إلخ …ولكن النفس تشتهى الطعام إذا أحست بالجوع، وتشتهى الشراب لا سيما البارد وقت الحر الشديد، وتشتهى إفراغ شهوتها حيث أحل الله في غير رمضان .فماذا يفعل اﻹنسان ؟
يقع في صراع شديد مع نفسه :
فهي تطلب الطعام والشراب والشهوة الجنسية وتلح عليها مستغلة سلطان الغريزة اﻵسر، وهو يعلم أن فى اﻻستجابة لها ضياعَ دينه ،فيقع أسيرا للحيرة الشديدة نتيجة وهمه أن النغس لن تسكت عليه حين يعصيها ،، لكنه في النهاية يأبى اﻻستجابة لها، فيعصيها ربما ﻷول مرة وهو لا يكاد يصدق نفسه تغمره فرحة النصر غير المتوقع ،لكن هذه الفرحة يمازجها خوف من العواقب ؛ حيث يتوقع منها حربا ضروسا، لكن اﻷمر مهما عظم فهو يسير أمام غضب الله عزوجل … لقد كان من قبل لا يملك أن يعصيها، فاﻵن حين يقول لها :لا ، ﻷول مرة ؛
فماذا ستفعل معه النفس ؟
وأي عقاب ستوقعه عليه ؟
وهل سيستطيع وقتها أن يتحمل عقابها ؟ وإلام التحمل والتصبر ؟
وإن كان قد استطاع هذه المرة أن يعصيها فهل ستسمح له بعصيانها والتمرد عليها بعد؟
عشرات اﻷسئلة التى تتوارد على ذهنه وتتقافز على عقله، فيغلى بها كالماء في المرجل.
ولكن المفاجأة النى ما كان يتوقعها أنه لم يكن من النفس شيء من هذا ، بل ما هى إلا أن استكانت لرغبته وخضعت ﻹرادته!!!
فأين قوتها ؟!!
وأين سلطانها؟!
…….لا شيء .
لقد أيقن أخيرا أنه لا سلطان لها مع شدة إرادته ،وﻻ قوة لها مع قوة عزيمته ، وأنها لا تستمد سلطانه إلا من ضعفه هو ، ومن وهمه هو .
وحين تنكشف له تلك الحقيقة ويزول عن النفس سلطانها الموهوم وتتجرد من ثوبها الزور لتنكشف سوءتها يصبح سهلا هينا على المرء أن يتحدى تلك النفس مرات، وأن يكبح شهواتها ويقيد غرائزها كرات وكرات ، ولا سيما إن كان حراما وأن يجرد لها من سيف العزيمة كلما همت أن تستعلى عليه بشهواتها ، فإذا هي قتيل مضرج في دمائه .
°°°
هكذا يكشف لنا الصيام حقيقة النفس البشرية ، وبجردها لنا من سلطانها الموهوم ليبعث رسالة لكل امرئ غلبته نفسه أنه ما استمدت قوتها إلا من ضعفه وما استعلت عليه إلا من وهمه .
فهل نفيق من سكرتنا لنعلم بالصيام حقيقة نفوسنا فلا نخضع لها مرة أخرى ؟
ذلك ما نبغي :
فاللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا .
رب آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى