نظرات في قصيدة (شفتاها عصاي) للدكتور السيد خلف ابو ديوان
طاهر العلواني | كاتب مصري
إن منزلة المعنى من اللفظ بمنزلة الآخرة من الأولى؛ لا تبلغ في الآخرة رتبة، ولا تنال منها مكانًا إلا بما قدمت في الدنيا من صالح العمل، أو كالقَطر المجتمع في السحاب؛ تعتصرُها فتنزل منها المعاني، وتشرق عند ذلك شمسُ البيان، أو بمنزلة المعارض للجواري كما قال الشيخ أبو عليٍّ المرزوقيُّ. وكلما اقترب اللفظ من حقيقة المعنى المؤدى به كان أبذل للندى، وأميلَ للأسماع، وأقرب إلى الطباع، وأنصرَ للجهة التي بها يكون البيان، ومنها تظهر الفصاحة. وانظر إن شئت إلى قول الشاعر السيد خلف أبي ديوان (سلطان الجن):
هل أُعتقُ الحروفَ عبدًا فعبدًا**والمعاني تحجُّ دون طواف؟
تجد كلامًا يكفي أوله، ويشفي آخره، لا فيه حشوٌ ولا فضولٌ، فتأمل كيف افتتح البيت بالاستفهام توطئة إلى أنه لو أعتق لكان شأن المعاني على تلك الحال، وكيف عبّر بأعتق وجمع الحروف على الكثرة؛ بيانا عن أنها عبيد عنده يحرّكها كيف شاء وأين اختار، ثم فرّع الحال عبدا فعبدا؛ على معنى أنه كلما أعتق حرفًا ركب المعنى المخبوء خلف هذا الحرف الطريقَ على غير هداية، وامتطى على غير معرفة، إلا أنّه كان حقيقا بأن يقول: وتحجّ المعاني، ولكنّه قدّم المعاني لأمر آخر، هو أن اللفظ والمعنى شريكان ومشتبكا الأحوال، فكأنه لمّا تكلّم في الشطر الأول عن عتق اللفظ سأله سائل: إن كنت تعتق اللفظ فكيف تكون حال المعاني؟ فقال: والمعاني تحجّ، فبدأ بها، وهذا الوصل حسن كما ترى.
وفي البيت استعارتان كلتاهما أحسن من أختها؛ ذاك أنه جعل الحرف عبدًا، والمعاني كالسيد الذي يحمله هذا العبد ليطوف به، فإذا خرج هذا العبد من الرق إلى الحرية لم يكن للمعاني ما يحملها، يخاطب نفسه يقول: لو أعتقت الحرف من خدمة المعاني لم يكن للمعاني ما يحملها وقت الطواف، وعبّر بتحجّ لأنها تخرج من الأفواه فتقصد إلى القلوب، والحج قصدٌ، وخصّ الطواف لأنه دوران حول الكعبة، كما تطوف المعاني تجوب الأرض وتخترق السمع إلى القلوب ولو لم تمس الجلد؛ في معنى قول كثيّر:
رمتني بسهم ريشُه الكحلُ لم يجز**ظواهر جلدي، وهو للقلب خارق.
كذلك المعاني تباشر القلب وإن لم تمس الجلد.