طقوس

حميد عقبي | فنان ومخرح يمني – فرنسا

يتأمل غصن الشجرة المرتعش، يسحب نفساً من سيجارته الأولى، يحبسه لثوان ثم يطلقه في الفضاء، يقف أمام نافذته التي تطل على هذه الشجرة العجوز، هذا الفعل الصباحي كأنه طقس مقدس كأنه وصلاة خاصة.
يسارع كل صباح إلى هذا المكان حتى قبل أن يغسل وجهه أو يمشط شعره، بيده فنجان قهوته الدي يعده بشكل سريع وفي الأخرى سيجارته.
تتراكم حوله وأمامه كتلات من الصمت، يستكمل هذه الشعائر متمنيا ألا يعكرها صوت جرس الباب ولا ضجج جارته التي تتعارك مع رفيقها كل صباح ثم يضربها بعدها تصرخ وتبكي وتطرده وفي المساء يسمع الجميع ضجيجهم وهم يمارسون الحب بلذة وقوة وكثيرا ما تذكره هذه المشاهد بشخصية المعلمة الفرانة وزوجها في رواية “زقاق المدق” لنجيب محفوظ، أو رائحة الجافل القوية التي تنبعث كل صباح من الشقة بالطابق الأسفل حيث تسكنها جارة أخرى مهووسة بالتنظيف بمواد قوية الرائحة رغم أنها تسكن وحدها في عزلة وترفض مخالطة جيرانها أو حتى رد التحية ، تخرج فقطا لشراء ما تحتاجه وخاصة الجافل ومواد التنظيف والتعقيم، روائح هذه المواد تصل للطوابق العلوية وتفسد طعم ورائحة سيجارته البكر.
لكل واحد طقوسه، حتى الشجرة العجوز لها طقوسها الخاصة في تأملاته يشعر أأنها ترقص رغم كبر سنها، تستقبل العشاق من العصافير، تنتفض لتزيل الورق اليابس وتفتح أذرعها للريح والشمس، تشير إليه بالتحية ولكل من يمر بها لأطفال المدارس والأمهات الحبالى.
الآن يُحسّ برعشة البرد، يتهاوئ رماد سيجارته، يسرع بحركة عفوية بيده خارج النافذة ليُخلص رأس سيجارته من كتلة رماية، يلقي نظرة أخيرة للغصن،
يضع فنجان قهوته جانبا بشكل سريع، يُغلق النافذة، هنا تسرع نحلة مجهولة الهوية نحو النافذة، تصتدم بها، وشوشة ما! لا يفهمها، يظل متسمراً للحظات، تحوم النحلة بالضفة الأخرى، تتراجع للخلف ثم تعود تكرر نفس الفعل، يحسٌُ هو أنها تحمل له رسالة ما!
يتٱمل فعلها ومحاولاتها الدخول، يقرر فتح النافذة، يده على المقبض..النافذة مفتوحة الآن..النحلة تتراجع إلى الخلف، تحوم، تسارع بالتراجع إلى الفضاء تاركة المشهد بكل تفاصيله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى