حول الإعدامات الميدانية وعمليات القتل خارج نطاق القانون
نهاد أبو غوش – رام الله – فلسطين
يعيد قيام سلطات الاحتلال بإعدام السيدة الفلسطينية الستينية رحاب الحروب (60) قرب حاجز عسكري احتلالي بين مدينتي بيت لحم والخليل، قضية الإعدامات الميدانية، أو القتل خارج نطاق القانوني إلى الواجهة، وهي قضية لم تعد مجرد سلسلة من الحوادث الفردية المتفرقة، بل سلوك منهجي ثابت، يحظى بدعم وغطاء القيادات السياسية والأمنية في دولة الاحتلال، بل يحظى كذلك بفتاوى دينية من حاخامات ومرجعيات دينية يهودية تستند إلى المقولة التوراتية الشهيرة (من قام لقتلك .. بادر وعاجله بالقتل) وهو مبدأ يعود لقرون عديدة سبقت ميلاد المسيح ولكنه بات يمثل عقيدة أمنية لدى الجيش الإسرائيلي، ومصدر للتعليمات العملياتية المعروفة ب “تعليمات إطلاق النار” التي تعطى لكل جيش ولكا قوة إنفاذ قانون في العالم. كما باتت هذه العقيدة تمثل مرجعية قضائية وقانونية لدى السلطات العدلية في إسرائيل، ونادرا ما جرى تجريم اي جندي إسرائيلي لقيامه بإطلاق النار على أناس وقتلهم لمجرد أنه اي هذا الجندي ارتاب، من طريقة مشيهم أو حتى من ملامحهم، في كونهم يمثلون تهديدا جديا، وكل هذه الجرائم مجتمعة يمكن لها أن تشكل جرائم حرب وفق تعريفات نظام روما وتدخل في اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية لكونها تمثل عمليا منهجيا متكررا موجه لفئة من الناس لأسباب قومية او عرقية.
قبل الشهيدة الحروب قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 250 شابا وفتاة وسيدة فلسطينية، منذ عام 2015 وحتى الآن، بعضهم لم يحمل اي سلاح، وبعضهم حمل أداة بدائية او سكينا، أو ببساطة اشتبه في كونه يحمل سلاحا، أو ربما ساق مركبته بسرعة تفوق السرعة التي يتوقعها جندي الحراسة الإسرائيلي، او رما انزلقت مركبته لأي سبب من الأسباب.
من بين هؤلاء الضحايا كان الشهيد إياد الحلاق الذي صنف من ذوي الاجتياجات الخاصة لكونه يعاني من التوحد، والشهيد احمد عريقات الذي كان قد اتخذ زينته لحضور حفل زفاف شقيقته في اليوم نفسه الذي أردي فيه قتيلا وقبل اسبوع واحد من حفل زفافه هو نفسه.
في قصة استشهاد الشاب محمد محمود خلف لافي، كما في عشرات قصص الشهادة ما يستوجب التوقف والتدقيق والمتابعة. لكي تعمد الهيئات والمؤسسات الرسمية والأهلية إلى مباشرة واجباتها ومسؤولياتها التي وجدت من اجلها، لا أن تكتفي بتسجيل القضية وتوثيقها وتكتفي بإصدار بيان، ثم تحيل الشهيد إلى السجلات الإحصائية.
محمد أعدم بدم بارد من قبل قناص، استهدفه من بعد عشرات الأمتار، فاخترقت الرصاصة خاصرته وخرجت من الجانب الاخر. كان عشرات الشبان قد تجمعوا في أبو ديس، قرب مفرق الجبل، جرت مناوشات بالحجارة، قابلها الجنود بالرصاص، لم يكن بين الشبان من هو مسلح لا بسلاح ناري ولا أبيض، وبالتالي لم يشكل اي منهم خطرا على حياة الجنود.
هذه حكاية تكررت عشرات المرات مع فتية الجلزون محمد الحطاب وباجس نخلة وليث الخالدي، مع الشقيقين ابراهيم ومرام طه، ومع السيدة ثروت الشعراوي، ومهدية حماد، ومحمود بدران، وهديل الهشلمون وغيرهم وغيرهم. ملف الإعدامات الميدانية يتسع ويتضخم، ومؤسساتنا وأجهزتنا تسجل وتوثق، ولا تجري متابعة جدية لهذا الملف باستثناء الجهود الفردية التي تقوم بها المحامية نائلة عطية رئيسة الوحدة القانونية لمتابعة الانتهاكات الإسرائيلية لرصد هذه الحالات ومتابعتها قانونيا.
نحن إزاء جرائم منهجية، تستهدف الفلسطينيين لأنهم فلسطينيون وتمارس بغطاء سياسي وقانوني لدولة الاحتلال. الجنود يخالفون قواعد إطلاق النار التي يعتمدها جيش الاحتلال، ورئيس أركانهم غادي ايزنكوت نفسه اعترف بذلك. هم على طريقة “داعش” يطبقون فتاوى الحاخامات ” من قام لقتلك اقتله” وليس القانون، وحتى الآن لم تجر سوى محاكمة واحدة للجندي اليؤور ازاريا قاتل الشهيد عبد الفتاح الشريف، فحكم القاتل بالسجن لعام ونصف ثم أخلي سبيله للحبس المنزلي.
أصيب محمد لافي في أبو ديس، على مسافة اقل من 5 دقائق من مستشفى المقاصد والمطلع، نقل إلى مركز طبي محلي في البلدة، فلم يتمكن الأطباء والعاملون في المركز البسيط من فعل شيء. حاول أهله وذووه نقله لمستشفى أريحا ذي الإمكانيات المحدودة فاضطروا لنقله إلى مستشفى رام الله. كان محمد يتنفس طوال الطريق، لكنه وصل المستشفى بعد ساعة ونصف من النزيف المتواصل فأسلم الروح قبل أن يتمكن الأطباء من فعل اي شيء، في حالات مشابهة للإصابات الخطيرة الناجمة عن حوادث السير مثلا، تجلب الطائرات المروحية لنقل المصابين، لأن كل دقيقة حاسمة، والحياة مهمة لمن يقدر قيمة الحياة، أما موكب محمد فكان عليه اجتياز المسافات والحواجز وأزمات المرور لتستنفذ خلال ذلك كل فرص إنقاذ حياته.
في غمرة تقديسنا للشهادة وتمجيدنا للبطولة، نغفل عن جمع الأدلة، وتوثيق الشهادات، ومتابعة قضية الإعدامات الميدانية وبناء ملفات إدانة مجرمي الحرب، نلوّح بالتوجّه للمحكمة الجنائية الدولية ثم لا نتوجه ولا نفعل شيئا. وتحت سطوة الموروثات التي نرددها في مجالس العزاء تنقلب الصورة لنظهر وكأننا نستهين بحياة أبنائنا ونقدس الموت ونطلب الشهادة لذاتها، حينذاك يمكن للمجرم أن يبدو كأنه أداة القدر لتنفيذ “أغلى أمانينا” فيفلت من العقاب لأننا لا نلاحقه كمجرم حرب.