العصاري.. صورة ريفية
بقلم : محمد فيض خالد
أخيرا بدأ الطّقس في التحسُّن، وأخذت الدُّنيا تنفض عنها وهج النّهار المُحتدِم، ما أطيب السّير وقت الأصايلِ ، حين تجد الرّاحة سابغة تستفزك للتنزهِ، ها أنا اتخذ وجهتي _ كعادتي _ صوب الحقولِ ، لكن شيئا من وطأةِ الهجير لا يزال قابضا على كُلّ شيء ، أجده في أنفاسي المكروبة تُغالِب الاجهاد ، وقدمي المُتخاذلة تدبّ مُثقلة الوطأة ، وبين الفينةِ والأخرى ، تتنازعني مشاعر الحَنق، فأجدني انتفض انتفاضة المحموم، ألوم نفسي استعجالها الخروج ، بعدَ هنيةٍ سكنت نوازعي ؛ فتوغلتُ بين جنباتِ البساط السندسي الأخضر ، المُمدّد أمامي بلا نهاية ، تُخايلني صورة جامعة لمضامين الجمال الأخاذ ، عذبة من حولي ، قوية الرّنين، مجلجلة الصّوت ، تُسبِِّحُ بحمدِ خالقها، الذي اتقنَ كُلّ شيءٍ صُنعه ثم هدى .
وعلى حينِ غرةٍ، تنتشيني نفحات النّسيم البليل ، يشق طريقه بين غمراتِ الفضاء الهامد، ووجوه الفلاحين طلقة المُحيّا ، وادعة الأسارير ، عطوفة اللّهجة ، تتنادى في انشراحٍ بيّن : اتفضل اشرب شاي .
انحدرت ناحيةِ شجر صفصاف وارفة الظّلال ، اتّخذتُ لنفسي مجلسا ، لحظات واقبلَ فلاحٌ عريض المنكبين ، فارع القامة ، يخُبُّ في جلبابهِ الرِّيفي الواسع، هو أليف طفولتي، وحليف صبايّ، تذاكرنا نتفا من ماضينا السّحيق، نسجت العناكب عليهِ خيوطَ النسيان ، لاحت لي أشباح أحلامٍ غامضة ، تائهة من ذاك العهد القصيّ ، تشتبكُ فيها الرّهبة والإيناس ، بدى صاحبي كمن نفض يده من دنياه ، زاهدا في مباهجها وزينتها ، ناولني كوب الشّاي في ارتياحٍ عميق، مرّت الدّقائق بين طياتِ الحديثِ هانئة سعيدة ، حتى ظننت أنّ الحياة قد تخّلت عن كدرها في تلك السّاعة.
ثوانٍ وانفكّ حجاب الصّمت عن صياحٍ وجلبة ، وانبلجَ الأفقُ عن سباقٍ للأيادي تلوح بالشرِّ، وبدت مشاهد معركةٍ حامية الوطيس بين أبناءِ الطين ، تناثرت كلمات تأبى الأبالسة تردادها، راعني ما رأيت، أهكذا تجرّد ريفنا الهانئ عن وقاره، واصابه مسّ شيطان العصر ، جذبني صاحبي من يدي فأجلسني في تراخي ، وابتسامة تُزايل وجهه الحنون، واردف في تأني : لقد تغيّرت أخلاق النّاس يا صاح ، ورفع الرِّيف عنه إصر آباءهِ ، وتلك معركة ستنقضي ، لتتبعها أُخر تعجّ الحقول بها مع كُلِّ نهار ، فلا يضيق صدرك .
رميتُ بطرفي الكليل ناحيةِ ” براد” الشاي تمور رغوته ، وخاطرا يتردد صداه في كياني : كيف ودّعت الأُلفة أهلنا وحلّ التشاحن ؟! ألقيت بنفسي فوق حاشيتي ، وبصري يتقلّب صفحة السّماء ، ولا يزال في قلبي برودا من لهجةِ رفيقي، كانت شمس النّهار قد شاخت تحت سياطِ الظلام الزّاحف، ليغمر الجو سكونه ، ويقلب صفحة جديدة من صفحاتِ العصاري .