الدكتاتورية الأدبية.. رؤية في أصول النقد
رضا راشد | باحث في اللغة والأدب والبلاغة
أما قبل
فاعلم – رحمني الله وإياك – أن العقل البشري يعاني في تنشئة الأفكار وولادتها ما تعانيه النساء من آلام الحمل والوضع حتى إذا ما اكتمل نمو الفكرة في العقل انداحت منه إلى قلم الكاتب أولسانه، فبرزت للوجود لأول مرة، لكنها تصدر عن الإنسان موسومة بما جبل عليه من السهو والخطأ والنقص والنسيان، وبالتالى: فولادة الفكرة لأول مرة على قلم كاتبها لا يعنى أنها بلغت حد الكمال الذي يجعلها معصومة من النقد بل النقض … ونقد الفكرة ليس هدما لها، بل تهذيب وتشذيب لها بما ينفي عنها آثارَ النقص :خطأً كان، أو سهوًا؛ ناشئًا عن تعجلٍ، أو تسرعٍ، أو سوء تأتٍّ لها ..إلخ .
وإذن فقد بقي للفكرة بعد ميلادها حقٌ على كاتبها وحقٌ على قارئها ..أما حقها على القارئ: فأن يوسعها فهما حتى يميز بين جيدها ورديئها فيسدد الجيد وينفي الردىء ..وأما حقها على كاتبها فأن يتسع صدره لما لوحظ على فكرته مما عساه يذهب برونقها؛ فيتقبل ما قيل فيها من أوجه القصور ..ولكى يتم ذلك فلا بد من أن يكون الكاتب قائمًا على فكرته: نظرًا ونقدًا ؛حبا لها وحرصا عليها ..إذ كان من لوازم هذا الحب الاعتناءُ بها وتنقيتُها من أدرانها .
وعلى ضوء هذا يجب أن تكون نظرةُ الكاتب للناقد نظرةَ امتنانٍ وشكرٍ ؛إذ لولا اعتناؤه بفكرته لبقيت كما خُلقَتْ أول مرة : موسومةً بالأخطاء من بين يديها ومن خلفها .
هكذا نظر أهل العلم في سلفنا إلى النقد: مرآةً يرون فيها عيوب أعمالهم، وإلى الناقد: ناصحا أمينا يتوخى بنقده كمال الفكرة وتمامها . فرأوُا النقد حقا للكاتب على الناقد يجب عليه القيام به ..فإن قام به وجب على الكاتب شكرَه عليه أيًّا ما كان وجه النقد :رقيقا أو عنيفا .
ومن شكرِ الكاتب نقدَ الناقدِ نشرُه نقدَه في المكان عينه الذي نَشَرَ فيه العملَ الأدبيَّ المنقودَ ، بل كان بعضهم هو الذي يستحث الناقد على النقد، وليس هذا إلا دليلا على الإخلاص في التماس الحقيقة أيا ماكان مصدرها .
(^) ها هو ذا محدث مصر في القرن العشرين أبو الأشبال أحمد محمد شاكر – رحمه الله – يحقق كتاب “الشعر والشعراء” لابن قتيبة، فيكتب الأستاذ السيد أحمد صقر نقدا لتلك النشرة، فيرى أبو الأشبال ذلك الصنيع من الأستاذ صقر عملا يستحق عليه التحية، بل المبادرة إليها، فيعتذر عن تأخره فيها فيقول: ” أعتذر للأستاذ السيد صقر عن تأخير التحية له بمناسبة نقده إياي “[الشعر والشعراء ٣١/١] ؛ ثم يعلل ذلك بقوله: “وكلنا طالب علم، وكلنا طالب حقيقة، وكلنا رائد معرفة، ونرجو أن يكون ذلك خالصا لوجه الله وحده “[السابق].
و لأن الأستاذ صقرا كان من أبي الأشبال بمنزلة الأخ الأصغر، فإن أبا الأشبال رأى أن قيامه بهذا النقد قيامٌ ببعض حق الأخ الأكبر على الأخ الأصغر: ” فإذا ما نقد كتابي فإنما يقوم ببعض ما يجب عليه نحو أخ أقدم منه سنا “..[ولم يتهمه بسوء النية وخبث الطوية أو بسوء الأدب ومجاوزة حده، كما هو حاصل الآن.].. وما كان هذا الخلق النادر من أبي الأشبال رحمه الله إلا اعترافًا بطبيعة البشر وما جبلوا عليه من النقص يقول: “وما أحب أن أدير مناظرة أو جدالا حول المآخذ التى أخذها علي؛ فما زعمت قط وما زعم لى أحد أنى لا أخطئ ، وكلنا نخطئ ونصيب، ثم هو قد يكون أنفذ منى بصرا بالشعر وما إليه، بل هو كذلك فيما أعتقد، وليس وراء الجدال من فائدة إلا المراء وقد نهينا عنه أشد النهي “[السابق]، ثم ينعي على من يضيقون ذرعا بالنقد فيقول: “بل إنى لأرى الضيق بالنقد والتسامى عليه ليس من أخلاق العلماء، وليس من أخلاق المؤمنين، إنما هو الغرور العلمي والكبرياء الكاذبة، وحسبنا في ذلك قول الله تعالى:《وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم 》”.
فانظر – رحمك الله – كيف نزل بهذا السلوك الرديء (الضيق بالنقد) من ميدان الرذيلة الخلقية إلى دركات الحرمة الدينية . ثم يستبشع أشد الاستبشاع ما يفعله بعض الناس من أن يحرم على الناس ما أباحه قبل لنفسه فيقول: “ثم ما هذه الفاشية المنكرة التى فشت بين المنتسبين للعلم؟! سأتحدث عن نفسي مضطرا حتى لا أمس غيري.
أنا أرى أن من حقي أن أنقد من أشاء، وأن أقسو في النقد ما أشاء، فمن ذا الذي يزعم لي أو يزعم لنفسه أن ينقد الناس، وأن يقسو عليهم في النقد ثم يرى من حقه أن عليهم ألا ينقدوه وأن لا يتحدثوا عنه -إن هو أذن لهم في الحديث- إلا برفق ولين وملق ونفاق، مما يسمونه في هذا العصر العجيب (مجاملة) “.
انتهى كلامه – رحمه الله – ، وتأمل أنه لم يجعل هذا من خلق العلماء، بل سماهم المنتسبين للعلم، وكأنه رحمه الله يرى أن معيار أهل العلم هو قبول النقد، وأن الضيق به يرمى بصاحبه طريدا خارج ميدان الشرف ؛ميدان العلوم .
(^) ودع أبا الأشبال إلى فرع آخر من الدوحة الشاكرية ؛أبي فهر رحمه الله حيث يقول :” وما أظن في الدنيا أديبا عاقلا تُسَوُّل له أوهام العبقرية أنه قد سبق الخطأ والسهو والنقص والنسيان وترك النقاد وراءه لقىً يلوذون بظلاله “.
ولأنه رأى أن من السنن الكريهة التي سنها من أسماهم الأساتذة الكبار أنهم كانوا يخطئون في العلن ويتبرأون من أخطائهم في السر..قال: ” فمن أجل ذلك أجدني لا أغضب إذا دلنى أحد على خطأ قارفته، ولا أستنكف أن أعترف بخطأ ارتكبته، ولا أستتر من عيب اجترحته، ولا يسوؤني أن ينقدني ناقد: ظالما أو غير ظالم ولا أعده غضا لشأنى ولا وضيعة تحط مني أن يقول قارئ أو كاتب أو ناقد، جهارا أو علانية: إن كتابي لا يعجبه “.
ولم يكن هذا منه رحمه الله مجرد ادعاء كاذب، بل كان له ما يشهد لصحته، فقد اعترف رحمه الاه بكل مآخذ العلامة حمد الجاسر على نشره لطبقات فحول الشعراء بل أثبتها كلها معزوة إليه رحمه الله .
(^) دع عقاب العربية ايضا وانظر إلى شيخ البلاغيين محمد أبو موسى حفظه الله يكتب قائلا إن رأيت فيما كتبناه خطأ فاكتبه ودل الناس عليه؛ لأننا قلنا في الناس ما نشاء، فلك أن تقول فينا ما تشاء”.
هكذا كان سلوك الكبار من السلف ..فخلف من بعدهم خلف يدعون بلسان الحال أن النقد حق لهم وحدهم محصور فيهم، فإن تجرأ أحدهم فحال أن يمارس فيهم ما ادعوه لأنفسهم كان له منهم الويل والثبور وعظائم الأمور، وناله منهم ما ينال الثائر المطالب بحريته من المستبد الطاغى ..ولافرق ..فتلك دكتاتورية سياسية وهذه دكتاتورية علمية.