سمير غانم… شرخ في جدار المرح
عبد الرزّاق الربيعي | شاعر ومسرحي وكات صِحافي
لا أعرف لماذا أشعر بحزن شديد كلّما يغادر عالمنا ممثّل كوميديٌّ، ربّما اكثر من سواه من الممثّلين، فمثل هذا الرحيل يحدث شرخا في جدار المرح بعالم متجهّم أكثر من اللازم، كعالمنا المليء بالصراعات الدامية، والتراجيديا، وقد يكون لأنّ الممثّل الكوميدي يرتبط بمواقف سعيدة مرّت في حياتنا، ولعلّ أقدم هذه الأحزان، حزننا الشديد على رحيل اسماعيل ياسين في 24 مايو 1972، وحين عرض تلفزيون بغداد يوم وفاته أحد أفلامه، لم نضحك في ذلك اليوم، مثلما كنّا نفعل قبل رحيله! وأدركنا أنّه التحق بعادل خيري المتوفّى عام (١٩٦٣)، وعبدالسلام النابلسي ( 1968)، والضيف أحمد (1970) الذين كنا نحبهم، ونعلم أنهم رحلوا عن عالمنا، ومع ذلك كنّا نستغرق بالضحك حين نشاهد أعمالهم، يومها لم نكن نعرف الفرنسي هنري برجسون، ولا فلسفته في الضحك، وعلمنا بعد سنوات، أنه وضع كتابا أسماه “الضحك”، يرى به أنّ “النفوس الجامدة، لا تعرف، ولا تفهم الضحك”، وينصح الفيلسوف الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1927 قرّاءه ” جرّبوا للحظة الاهتمام بكل ما يُقال، وكل ما يجري، وتصرّفوا بالخيال.. سترون الأشياء الأكثر خفّة تتخذ وزنا.. ابتعدوا بأنفسكم، شاهدوا الحياة كمتفرج لا مبال.. كثير من المآسي يتحوّل إلى كوميديا”وقد يختلط هذا بذاك، وندمع من كثرة الضحك، على حدّ وصف المعرّي :
فلا تحسبوا دمعي لوجد وجدته
فقد تدمع الأحداث من كثرة الضحك
يعرف المشتغلون بالتمثيل أنّ إبكاء الجمهور سهل، فهو مستعد فطريّا للبكاء، ولكن إضحاكه يحتاج إلى معجزة، يقول شارلي شابلن “معجزتي أن أضع البسمة، والضحكة فوق أفواه الصغار”، فالكوميديا من أصعب فنون التمثيل، وتحتاج إلى قدرات أدائيّة عالية، وإستثنائيّة، لقد كنّا نضحك حين نشاهد اسماعيل ياسين والنابلسي، وفؤاد المهندس، وعادل خيري، وثلاثي أضواء المسرح (الفنان سمير غانم، والضيف أحمد، وجورج سيدهم) الفرقة التي تأسّست في الستينيات، فأمتعتنا كثيرا، بما قدّمت من عروض كوميدية، على خشبات المسارح، وكذلك في السينما، فكان ظهور اسم الفرقة في عناوين الأفلام كافيا لإقبال الجمهور على مشاهدتها، رغم أن مشاركاتها في تلك الأفلام لم تكن فاعلة، وإنما كوجبة فاكهة تلطّف الأجواء، ولأن دوام الحال من المحال، فقد منيت الفرقة برحيل الضيف أحمد عام ١٩٧٠، وتوقّفت أعمالها، ولكن سمير غانم لم يتوقف، فقد ظهر مع سيدهم بعدة أعمال أبرزها مسرحية(المتزوجون)، وانسحب سيدهم عن المشهد، بعد إصابته بالشلل، قبل رحيله العام الماضي، وواصل غانم أعماله في التلفزيون، والسينما، والمسرح، وقد أتيحت لي فرصة مشاهدته على الخشبة، عندما زار مسقط ، وقدّم مسرحيّة ( مراتي زعيمة عصابة)، التي كتبها: أحمد الأبياري، وأخرجها: حسن عبد السلام، على مسرح المدينة بحديقة القرم الطبيعية، ضمن فعاليات مهرجان مسقط 2008، وبعد انتهاء العرض دخلت كواليس المسرح، وسلّمت على المشاركين: نهال عنبر، وحجاج عبد العظيم، وغسان مطر وريكو، ورانيا فريد شوقي، وآخرين، ولم يكن سمير غانم بينهم، حين سألت عنه، لتوجيه أسئلة صحفية حول العرض، قيل لي أنّه في الداخل يغير ملابسه، ويزيل المكياج، فوجدت الظرف غير مناسب للقائه، وفضّلت زيارته في الفندق، فغادرت الكواليس، وحين وصلت البوابة الخارجية للمسرح شاهدت الجمهور محتشدا هناك، وبدا لي كأنه انتقل من قاعة المسرح إلى البوابة ، وكان الممثلون يخرجون واحدا تلو الآخر، وسط تصفيق، واحتفاء الجمهور، ولم يبق سوى سمير غانم، وأطال المكوث، ومع ذلك ظلّ الجمهور ينتظر، رغم أن الوقت كان متأخّرا، والجو باردا، وبقيت أراقب مشهد حفاوة الجمهور المحتشد بنجمه سمير غانم، وأخيرا خرج النجم، ولكن يالخيبة الجمهور الذي أمضى أكثر من ساعة ينتظره ! فقد ظهر يسير بخطوات سريعة، وهو محاط برجال الشرطة، وواضح أن إدارة المسرح استعانت بهم لكثافة الجمهور، و”من الحبّ ما قتل !”، وكان من الصعب عليه أن يشقّ طريقه الى السيارة التي كانت تنتظره لتنقله إلى مقرّ اقامة الفرقة، هذا المشهد لم أره مع ممثل عربي، وهو يؤكّد شعبيته الطاغية، ومحبّة الجمهور العريض له، ذلك هو سمير غانم، الذي التحق برفيقي دربه الضيف أحمد، وجورج سيدهم، وعزاؤنا أن أضواءهم ستظل ساطعة في فضاء ذاكرة الجمهور!