العم عمر.. قصة قصيرة

حميد عقبي | قاص ومخرج سينمائي يمني مقيم في باريس

تتحوّل معصرتنا إلى منتدى حكايات، فهي أشهر معصرة زيت السّمسم بالمدينة، يأتي الزّبائن لشراء زيت السّمسم أو العصارة والّتي تنتج من قشر حبّات السّمسم وتستخدم لتغذية الأبقار، وجوه كثيرة على مدار اليوم وهنالك من يأتي ليستظلَّ تحت سقفنا وينعم ببعض الماء البارد. كانت هذه المعصرة تقليديّة تعتمد في جرّها على الجمال. تعلّمت في هذه المعصرة حبَّ الحكايات وكأنّها مختبراً سرديّاً من طراز فريد.
هنالك حكايات قد تكون غير مسموح لي بسماعها وهي خاصّة بالكبار، يتحدّثون عن اللّيل وما يفعلونه مع زوجاتهم وقد ينهرني أبي أو يكلِّفني بمهمّة تبعدني عن المكان كالذّهاب لجلب ماء بارد أو شاي وصرت أعرف أنّي غير مرغوب بي لسماع حديث الرّجال وما يفعلونه أثناء اللّيل، هنالك رجال يستمتعون بقصِّ أدق التّفاصيل اللَّيليّة، ولم أكن أفهم ولا أضحك لضحكاتهم وكأنّهم يتبادلون الخبرات، كان ما يشدُّني أكثر العم عمر، فهذا الرّجل ربّما يكون عمره في نهاية الخمسينيات، إلّا أنّه يتمتّع بصحّة جيّدة وهو الحارس اللّيلي لحارتنا ويبدأ عمله بعد صلاة العشاء إلى الفجر، في النّهار ينام وعندما لا يأتيه النّوم يأتي عندنا، يلفُّ على وسطه مئزراً شعبيّاً أبيضَ إلى الرّكبة تقريباً ويلبس فانيلّا بيضاء، يعشق الحناء لذا فبشرته القمحيّة تميل إلى اللّون الذّهبي نوعاً ما.
تدهشنا حكايته عن اللَّيل وأسرار اللّيل بزقاق الحارة وهذه الحكايات تختلف عن الحكايات الجنسيّة الّتي يتابدلها الكبار، حكاياته غرائبيّة عن الجنِّ والعفاريت والسّرقة والّذين يخرجون ما بعد منتصف اللَّيل، يتحدّث عن بطولاته في الحراسة وخاصّة في اللّيالي الممطرة والمظلمة بسبب انقطاع الكهرباء، فالجنُّ يخافون من النُّور وهم أكثر حرّية من منتصف اللَّيل إلى قبل صلاة الفجر، وبحسب رواياته بعضهم لا يضرُّون بل أصبحوا من أصدقائه يمرّون في حال سبيلهم ويسلّمون عليه ويسلّم عليهم، اللّيل للجنِّ حياة وحركة فلهم أسواقهم ومنتدياتهم وحياتهم الخاصّة ومنهم الأشرار يتمثّلون في شكل كلاب متشرّدة قذرة وهؤلاء لا ينفع أن تخافهم أو يشعروا بخوفك وعليك أن تتسلّح بعدّة أشياء ولعلَّ هذا جعله يحمل طوقاً فضِّيَّاً على ذراعه الأيمن مفتول العضلات كحرز يقيه شرّهم وكذلك حفظ بعض آيات القرآن خاصّة آية الكرسي وبعض التّمائم يضعها في حزامه.
كل يوم يكاد يروي لنا حكاية مرعبة فيها الكثير من الفنتازيا والدّهشة والخوف، هنالك شخصيات من الجنِّ أصبحت بمثابة حقيقة منها الجنِّي الّذي في مؤخّرته ملعقة وهو الأكثر رعباً وبشاعة.
لا أدري هل حكايات العم عمر هي الّتي رسّخت في ذهني هذه الخرافات، فذات مرّة عند عودتي من بيت أحد رفاقي للمذاكرة بحدود التّاسعة ليلاً، من عادتي أن أسلك الزّقاق القصير بخطوات سريعة إذا كان خالياً، وفي تلك اللّيلة قلت لنفسي سأسلك حوش المعصرة فهو لا يبعد إلّا خطوات عن باب بيتنا، كلّما تذكَّرت ذلك الموقف، شعرتُ بقشعريرة كأنّي أعيش الموقف، حتّى لحظة هذه الكتابة، وقد يشعر بها بعضكم الآن، يبدو أنّي ليلتها شعرت بأنّي شجاعٌ مثل العم عمر، لا أفهم مَن دفعني لذلك الطّريق، بعد خطوات عديدة تجاوزت بالداخل وكنت رسمت بداخلي قبل الولوج بالسّير قُدُماً دون الالتفات يميناً أو يساراً، أن تكون خطواتي شجاعة ومتّزنه دون خوف .. فماذا حدث؟
بعد أقل من خمس خطوات التفتُّ نحو جهة اليسار، هنا كانت الفجيعة، نعم هو الجنِّي في الزّواية، جسده مطلي كاملاً بالحناء وبخلفيته ملعقة، كان ملتصقاً في الزّاوية، تسمَّرت قدماي، أصابتني رجفة فظيعة، شللاً تامَّاً أفقدني الذّاكرة للحظات ربّما، لا أدري كم مكثت مشلولاً لا أتحرّك؟ حاولت أن أتذكَّر آية الكرسي، نعم أحفظها عن ظهر قلب، أحاول التّحرر وتحريك جسدي قبل أن يخطو نحوي، زادت دقّات قلبي، تصبَّب جسدي عرقاً، أدركت أنّها نهايتي، رفضت الاستسلام، بدأت أتذكّر، “الله لا إله إلّا هو الحي القيُّوم” بدأت أتذكّر وأتلو مرةً تلو مرة، كأنَّ قوّة غريبة أوقفته من التّحرّك، بدأت عقدة قدماي تتحرّك، انتزعها بصعوبة بالغة كي أخطو أوّل خطوة ثمّ الثّانية ثمّ الثّالثة، أتلو بصوت مرتفع، كم مرَّ من الوقت؟
لا أتذكَّر إلّا أنّي بعدها استطعت الرّكض إلى أن وصلت باب البيت، لم أشعر بالأمان إلّا وأنا في داخل البيت والكلّ تقريباً نيام، يا إلهي أَحقَّاً نجوت، وضعت كتبي وأسرعت لسريري مباشرةً وغطّيت نفسي حتّى رأسي وأنا أتلو ما أحفظه من تعاويذ وقرآن مخفياً ما حدث معي عن أهلي. في الصّباح بدأ جسدي منهكاً ووجهي مصفرّاً، أدركت أنّي أصبت بالفجيعة وكانت من عادتنا أن نذهب يوم الجمعة إلى شخص يسمّى الدّبّاش يقوم بمعاينتنا وتوسيمنا، فالكي بالنّار هو العلاج النّاجع من الفجائع ولم أكُنْ أحبُّ هذا المشوار لكنِّي شعرت بحاجة للعلاج من تلك الفجيعة المرعبة.
جاء يوم الجمعة وكنتُ أوّل المتحمِّسين للدبّاش، عندما وصلنا، تفحَّصنا بعينيه، طلب منِّي الاقتراب أوَّلاً، لديه ما يشبه الإبر يضعها في موقد من الفحم حتّى تصفر، فحصني عن قرب، خلعت الفانيلّا ، أخذ الوسام، وضعه بلسانه أولا ثمّ كوى به ظهري وبطني ورأسي، كأنّه عرف الحكاية الّتي أخفيتها أو هكذا بدا لي، شعرتُ أنّي تعالجتُ وهدأ الرّعب في داخلي، ورغم كل هذا بقيت مولعاً وأتصنّت لحكايات عم عمر اللّيليّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى