حسين مهنا.. حالة نموذجية
زياد شليوط | شفا عمرو – الجليل – فلسطين
شعراؤنا بعد الخمسين يخرجون عن “سوط” القيود السياسية ويحلقون في شعر الحب
من تابع نتاج شعرائنا الفلسطينيين داخل مناطق الـ48 لاحظ انعكاس تأثير نشاطهم السياسي، المتماثل مع الحالة السياسية التي عاشها شعبنا في سنوات الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، وخاصة القضية الفلسطينية والقضايا القومية الكبرى، انعكاس كل ذلك في نتاجهم الشعري حتى أنهم نسوا أو تناسوا أو بالأحرى ابتعدوا عن التعبير عن مشاعرهم الانسانية في المجال العاطفي، ولم يجرؤوا على كتابة الشعر العاطفي بفعل “السوط” المرفوع على ظهورهم ان هم اقتربوا من هذا الجانر الأدبي، وهكذا عرفنا ألقابا كبيرة فاز بها شعراؤنا وتميزوا بها عن غيرهم، حتى من أبناء شعبهم وأهمها على الاطلاق لقب “شعراء المقاومة”، الذي ضجت به الأوساط الأدبية واحتج عليه الشاعر محمود درويش لاحقا.
إن تلك الحالة تفسر بما لا يدعو للشك اقدام عدد من شعرائنا المخضرمين وخاصة بعدما تخطوا سن الخمسين من عمرهم، أن يتمردوا على “السوط” الداخلي، ويطلقوا أصواتهم نحو الشعر العاطفي والغزلي بعدما أطلقوا العنان لمشاعرهم، كي تسبح في بحر العاطفة ومحيط الحب التي هي أكبر من أي بحر أو محيط، ومن الأمثلة البارزة على ذلك شاعرنا ابراهيم مالك الذي أخذ بنشر الشعر متأخرا وخاصة العاطفي منه، بعدما “سئم” النشاط السياسي والكتابة والتحليلات والعمل الصحفي، وخاصة في الصحافة الحزبية من الصحافة الشيوعية “الاتحاد” و”الجديد” الى الصحافة القومية “فصل المقال”، ومثال آخر الشاعر كمال ابراهيم، ابن قرية المغار، الذي انزاح نحو الشعر الغزلي وبغزارة في السنوات الأخيرة، حتى أنه أصدر ديوان غزليات الى جانب دواوين عديدة وتحمل عشرات القصائد الغزلية.
لكن سأتوقف في هذه العجالة عند شاعر متميز ومثقف في شعرنا الفلسطيني المحلي خاصة، ألا وهو الشاعر حسين مهنا ابن قرية البقيعة الجليلية، الذي أوقف شعره على الوطن والقضية السياسية والمواقف التقدمية اليسارية، ولم يفطن الى العاطفة الا في السنوات الأخيرة، وما أدى الى انتباهي الى ذلك، عندما عدت ثانية لقراءة ديوانيه الصادرين عام 2007 عن دار الأسوار العكية: “تضيق الخيمة… يتسع القلب” و”الكتابان”، وربما عنوان الديوان الأول يوحي بما أذهب اليه حيث يعترف لنا الشاعر بأن الخيمة أخذت تضيق وهي السياسة وبدلها أخذ القلب أي العاطفة يتسع. ولماذا ننشغل بالتحليل طالما أن لدينا اعترافا مباشرا وصريحا منه، فهذه قصيدة “هادئة شواطئي… صاخبة زماميج مائي” من ديوانه الأول (ص 29-33)، حيث يقول في مطلعها:
“عصرتني الهزائم يا حبيبتي
وامتصت ماوية عروقي
وتركتني قشة يابسة وحيدة”
هذا ما فعلته السياسة بشاعرنا، أخذت كل الخير الذي كان فيه والشباب والقوة، وتركته قشة يابسة ووحيدة وهذا هو الأصعب. وهذه لم تكن حال شاعرنا لوحده انما حال أصدقائه وزملائه في تلك المرحلة من الحياة والعمر، ويعبر عنها بألم وحسرة قائلا:
” وليتك تعلمين بأنني ولدت طيرا أخضر وديعا
بروح مبدعة
تبحث عن غصن أخضر
فلم تجد غير هشيم”
فالسياسة والانشغال بالنضالات السياسية شوهت وحرفت روح الابداع الشاعرية، بل قضت على روح الفتوة والشباب:
” فعشت شبابا مجرحا
مطفأ المواقد
بلا حتى عود ثقاب واحد
يوقد في صدري نارا ثائرة”
وربما أكثر ما يؤلم الشاعر كما يؤلم أترابه، أنه وبعد تلك الحياة الحافلة التي قضوها بالنضالات من اجتماع الى مظاهرة الى ندوة الى رفع شعارات، انتهت بالوحدة والكآبة والجهل، فيصور ذلك بأقسى حالات التعبير:
” وها أنذا أعيش كهولة
تموء مواء قطة جائعة
وعواؤها عواء ذئب جريح
يقعي على عتبات تاريخ جميل المحيا”
صورة قاسية فعلا، نابعة عن شعور عميق بالأسى وعلى ضياع سنوات جميلة، لكن لم تأت بما هو مفيد.
وفي ديوانه الثاني نماذج عديدة من هذا القبيل، وما أن يسمع كلمة ” أحبك” حتى ينتفض نافضا الغبار عن تاريخ بات منسيا:
” يكفي فؤادي اذا قلت! إني أحبك
أن ينتفض مثل العقاب
وأن يستعيد شبابا نبيلا
طواه الزمان” (ص20-21)
وفي قصيدة أخرى يواصل العزف على ذات الوتر:
” يا فؤادي متى أراك خليا
شاب رأسي وما تزال صبيا” (ص63)
لكن على أرض الواقع:
” تعب الجسم وخطوي بات هونا
وخريف العمر يقتات حشايا” (ص74)
ربما هذا يؤكد ما ذهب اليه الكاتب محمود أبو رجب، في كتابه “شذا الكلمات في الحب والحياة والمرأة”، حين قال: ” وأعتقد أن الشعراء الذين لم يكتبوا في الحب والمرأة لن يبقى لهم بعد رحيلهم شيء.” وأتساءل بدوري، هل هذا ما شعر به وتوصل اليه شاعرنا حسين مهنا – وأمثاله من الشعراء- بأن الشعر السياسي وشعر المناسبات لن يدخلهم في عالم الخلود الشعري، وأنه طالما لم يكتبوا الشعر العاطفي والغزلي فان التاريخ سينساهم، فالشعر العاطفي يبقى أقوى من الموت والفناء، ومن هنا فان الشعر العاطفي ما زال يرافقنا من العصر الجاهلي فالأموي فالعباسي حتى يومنا هذا؟ كما أن الأمر ينطبق أيضا على النثر فها هو الكاتب محمود أبو رجب يعبر بطريقته في سن متأخرة عن الحب، حيث وضع كتابا كاملا في الحب (صدر عام 2012) باحثا في معانيه وألوانه متعمقا في سبر أغواره كاشفا عن بعض ذكرياته ومغامراته العاطفية، وهذا ما لم يفعله كاتب عندنا من قبل وفق ما أذكره. أبو رجب أثبت وأظهر شجاعة ربما تفوق شجاعة الشعراء في هذا المضمار لأن الشاعر يمكن له في الشعر من استعمال أساليب مختلفة ومتنوعة وخاصة غير المباشرة، على عكس النثر وخاصة في البحث والكتابة المباشرة كما فعل أبو رجب في كتابه المذكور.