حكايا من القرايا.. ” أحلى يوم “
عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين
في حياة كل منا يوم، يوم لا ينسى، لا تنسى أحداثه، ولا ساعاته ودقائقه… وقد يكون هذا اليوم جميلاً جلب السعادة والفرح لصاحبه، وقد يكون تعيساً جلب الحزن والألم لصاحبه…
كانوا يتعللون على بيادر الخير، والنار مشتعلة، تكسو مكان السهرة ضياءً حميمياً، ونفحات من أزهار شجرة ” ليلة القدر ” تنفخ في الفضا عبقاً وعبيراً… وكؤوس الشاي على صوانيها، تقدم للسهرانين… وكؤوس أخرى فارغة تسمع أصواتها، وقد عادت من بين أيدي السهرانين، لتملأ مرة أخرى… بعد غسلها في ” قيزان ” ماء كبير… ودلال القهوة على النار، يتفاعل هيلها مع بنّها، فيكون النشيد الذي يشنف الآذان… سألوا الحجة حفيظة: ما أجمل ساعة في حياتك؟ قالت: عندما تخرج أحمد وأنهى تعليمه… وأتعس يوم: يوم وفاة “أبو أحمد”… وبدأت تشهق وبدأت الدموع تهطل… استدرك الوضع أبو النجيب: يا أم أحمد، بالله عليك لا تقلبي هالتعليلة غمّة… خللي الشختورة مستورة… مسحت دموعها، وظهرت أسنانها بابتسامة بعد حزن… كشمس أطلت بعد سحاب هطل ماؤه فكان الفيضان…
بادر أبو خليل، وقال: أسعد يوم عندي، عندما وصلت الكويت، بعد أن ضعنا في الصحراء مع الدليل، وأخيراً وصلنا باب ” الدروازة ” والتقينا بالصدفة ببعض المعارف الذين استقبلونا وما قصروا… سألته المعانية: هل كنت متزوجاً في ذاك الوقت، نعم، وكان عندي سلوى وصالح، أجبرني الفقر على (الطشش) في الصحاري، فتركت أسرة ومشيت، ألقّط رزقي…
رشف أبو محمد الراشد رشفة من كاس قهوة، بعد أن تمرد على الشرب بالفنجان، ومسح أطراف شواربه، وكأن القهوة مسّت شواربه… وتنهد… تنهد طويلاً… سمع الربع زفرته… ما بك يا “أبو محمد”؟ سأل الحج عبد الله النمرود… أجابت عنه صالحة أم العنين… الحزين الديون ركبته، ديون غرّقته لشوشته… بعد ما انتصب عليه في بيع الخُظرا… وانعمى ظيّه الحزين… وصار يشتغل بالليل والنهار تا لحق حاله، وستر وقته… قال أبو محمد: لا، والله يا صالحة، مش هذا السبب… والمصاري بتروح وبتيجي… لكن يا جماعة، وبرم هيشية، وأشعلها، وهو يهمّ بالحديث… اللي بحرق والدين الواحد السمعة… اللي بحرق حرسي الواحد إنو يصير خرّيفيّة للرايح والجاي… وللي بسوى واللي بسواش…
ليلة مرت عليّ زي قاع الكيلة… وهبطت نبرة صوته، وكأن الحزن اعتراها… ليلة كأنها سنة برتني بري… أي ليلة يا حج؟ ونصت السهرانين، وصمتوا فكنت تدب الإبرة على الأرض فتسمع صوتها… قدّم أبو محمد كاسه الفارغ من القهوة، فصبّت له صالحة، ونفخ دخان سيجارته دوائر في الفضا… وقال: ليلة عرس ابني عبد الله… يا جماعة الخير، قدّر الطباخ كميات الأرز والمرق واللحم… ووفرنا كل شيء، لكنه أخطأ… وأنتم تعرفون أجا عندنا ناس من البلاد كلها… والكل كان مبسوطاً، يسحج، ويردد أغاني الزجالين… إلا أنا بعد أن فاتحني المختار أن اللحم قاب قوس أو أدنى، وأنه سينفد من الطناجر، والسهرة بعدها بنصها… ساعتها غرقت في عرق مفاجىء، من الراس حتى الساس… وصرت أتخيل مجموعة تلو مجموعة تأتي، ولا يقدم لها القرى… يا خزاوتك يا أبو محمد، وكيف تحط عقالك على راسك قدام الناس… زاد قلقي، وتمنيت أن تنشق الأرض وتبلعني… وتلعثمت في الرد على تحايا الناس وتهانيهم وتبريكاتهم… ما العمل؟ استرني يا رب… يا رب…
ساعة وأنا أحوس وألوص بلا هدى… حتى رأيت الخلاص… أشرق بأياد بيضاء… شباب يحملون ذبيحتين… بدؤوا يقطعون لحمهما ويلقون به في القدور… والماء يغلي يسلق القلق، ويذيبه رويداً… رويداً… يا الله كنت في بير وانتشلني الشباب منه… وجاء رجال من أقاصي البلاد… جاؤوا بعباءاتهم… والحمد لله الذي قدّرنا على إكرامهم…
قال أبو خليل: والله وقعة سخنة… وقالت حفيظة: وجب تعزمنا كلنا وتعملنا وليمة… اللي الله خلصك من هيك وقعة… وضحك أبو النجيب من قحف رأسه، وقال: آه، لو رأيتك في تلك الحالة… وضحك الجميع…