شهداء في الثلاجة، والورود خارجها
خالد جمعة | فلسطين
تحتفظ إسرائيل ـ حتى الآن ـ بواحد وثمانين جثماناً لشهداء فلسطينيين في ثلاجاتها، وربما يكون هذا هو الاحتجاز الأكثر غرابة في تاريخ البشرية، منذ احتفظ جلجامش بجسد أنكيدو رافضاً دفنه حتى سقطت دودة من أنفه، حسب أسطورة جلجامش الشهيرة.
يمكن كتابة عشرات القصائد في معنى البرد، وقدرته على الاحتفاظ بالجثة طازجة، وعشرات القصائد في ألم الأمهات والآباء، واشتياق الأخوة والأصدقاء، ليس للقاء من يحبون، فهذا لم يعد ممكنا، ولكن لقبر يضعون باقة من الورد عليه، أو يقرأون الفاتحة، أو جزءاً من الإنجيل إذا كان مسيحيون من بينهم، ليتعلق السؤال بذؤابات الأشجار، ما الذي يؤلم أكثر من موت من تحب؟ والإجابة صنعتها “إسرائيل” في جو الفانتازيا هذا، جو اللاممكن، إن ما يؤلم أكثر أن يموت الذين تحبهم، ولا تتمكن من الحصول على جثثهم لدفنها، وأنت تعرف كل الوقت أنهم هناك، في ثلاجة باردة، ربما يحلمون بما لا نستطيع التكهن به.
مع اعترافي بمحدودية العقل البشري، وعقلي أنا شخصياً، إلا أنني حاولت طوال عمري البحث عن إجابات للأفعال، وهناك فرق كبير بين أن تفهم دافع السلوك، وبين أن تتفهمه، فأن تفهم يعني أن تعرف لماذا كان التصرف بهذه الطريقة، أما أن تتفهم، فمعناها أن تلتمس العذر لهذا التصرف، لذا حاولت دائما أن أفهم تصرفات “إسرائيل” لا أن أتفهمها، أما مع الاحتفاظ بجثامين الشهداء في الثلاجات، فهذا ما لم أفهمه ولا أتفهمه، ولا أريد أن أفهمه ولا أريد أن أتفهمه.
هناك حوادث تتشابه في ظاهرها، لكنها تختلف جوهرياً في مضمونها، فصديقي، وابن مخيمي، المخرج عبد السلام شحادة، في فيلمه الوثائقي “قوس قزح” الحائز على عدة جوائز، والذي حكى فيه قصة اجتياح إسرائيل لرفح عام 2004، بعملية عنوانها “قوس قزح”، قدم مشهداً حقيقياً لعدد من الجثث المكفنة بالأبيض داخل إحدى ثلاجات الورد في مدينة رفح التي تشتهر بزراعة الورود وتصديرها، بعد أن حاصر الجيش الإسرائيلي منطقة تل السلطان غرب رفح، ولم يعد بالإمكان إخراج جثث الشهداء إلى ثلاجات المستشفيات، كانت حوالي عشر جثث، ومزارع يمسك بالورود الذابلة التي اضطروا لإخراجها من الثلاجة كي يضعوا جثث الشهداء مكانها، ويقول: هذا ما نصدره للعالم، وهذا ما تصدره لنا إسرائيل، لقد كان مشهداً مؤثراً ومعبراً، حين يأتي الموت، على الورد أن يذبل، هكذا قرأت المشهد، وهكذا هو المشهد على حقيقته.
لكن إسرائيل لم يكن لديها ورد لتخرجه من الثلاجات وتضع الشهداء مكانه، بل وضعتهم هم مباشرة دون بديل، وكأن الربط بين قصة الورد في رفح، وقصة الشهداء في ثلاجات إسرائيل فرض نفسه على واقعية الرمز، حيث الحياة في فلسطين دائماً أعلى من الفانتازيا.
الشهداء الذين في الثلاجات ينتظرون قبورهم، وقبورهم تنتظرهم، تنتظرهم أمهاتهم اللواتي بقين على قيد الحياة، وينتظرهم أصدقاؤهم الذين سبقوهم إلى الموت أو الذين بقوا مقصوصي الأجنحة، معبأين بذكريات قديمة، كل شيء ينتظر، كل شيء مؤجل، حتى طقوس الموت مؤجلة، و”إسرائيل” وحدها تعرف السبب، وتعرف الوقت الذي سيعود فيها الشهداء إلى تربتهم كي تحميهم من غول النسيان.