تَوهُّجُ الرؤى والأحاسيس في قصيدة ” ارتحال ” للشاعر التونسي جلال باباي

محمد المحسن | تونس
إنّ من يقرأ للشاعر التونسي القدير جلال باباي سيلاحظ مغزى عنوان قصيدته  المسمّىاة (ارتحال)، دون تحديد لجنس النص،يدلّ على وعي الكاتب بأنّ مؤلفها يحوي أو لا يقتصر على جنس نثري أو شعري محدد، فكتب في أكثر من صنف أدبي واحد،بما يظهر الموضوع المحاكي في صورته الدّالة،واللفظ الخطابي المراد إيصاله بما يتناسب مع أكثر من ذائقة قارئة واحدة،فالقراءات متعددة لتعدد قرائها، وكذلك الأجناس الأدبية متعددة لتعدد موضوعتها المختلفة،بحسب ما يرى كلّ مبدع ٍ لموضوعه الذي يريد أن يحاكيه بالصور الأدبية التي يتقنها ومتمكن منها، ومن ثمّ شعوره اتجاه كلّ موضوع؛ما القالب الأدبي الذي يحتويه وفي أيِّ جنس شعري أم نثري يصل للقارئ؟.
ما أريد أن أقول؟
لا ريب أن الشعر مدى واسع من التأمل والبوح والإفاضة الروحية، وهذا السحر الذي ظلت أمة العرب تردد إيقاعاته،وهي تؤرخ فخرا وتشدو أحداثا وتؤكد وقائع، هو السحر الكلامي الأكثر جدلا بين الفنون التعبيريّة .
وهذا الجدل ارتبط بطبيعة التجديد التي اجترحت ثبات شكله عبر قرون ،ليشهد حركة تحويله إلى نمط قصيدة التفعيلة أو ” الشعر الحر” الذي جاء على يد رواده السياب ونازك والبياتي وبعض الشعراء الذين عاصروهم ،ورغم التزام قصيدة التفعيلة ببحور الشعر، إلا أنها واجهت ردود أفعال متشنجة من شعراء العمود ،الذين اعتبروا الخروج عن- الإطار الفراهيدي- عبثا لا مبرر له ،و لا أريد الخوض هنا في تفاصيل هذا الصراع الذي كتبت عنه مؤلفات ونوقشت فيه رسائل جامعية عديدة، حتى صار واقع حال وشهد انتشارا وفرسانا أبدعوا وجددوا في جسد قصيدة التفعيلة.
وفي العقود الأخيرة ،أخذ الشعراء يشتغلون على تجربة “قصيدة النثر”التي مازالت حتى هذه اللحظة مثار اختلاف وجدال ،بين اعتراف بها كلون من ألوان الشعر ،وبين رفض لها كونها خالفت شروط الفراهيدي في العروض والإيقاع وبحور الشعر العربي الستة عشر، وكذلك اجترح شعراؤها لأنفسهم منابر تعبير مختلفة، حتى غدت قصيدة النثر بسبب غياب الضوابط المنظورة ،ميدان واسعا ضم الجميع، بجيدهم ،ورديئهم، بمن يتمتع بموهبة استثنائية واضحة ، وبمن لا يعرف من الشعر غير رصف كلمات معينة ،الهدف منها الإثارة أو الإختلاف ،أو تحقيق هدف شخصي ما .
ولكوني-أزعم-أني أحد المتابعين للشعر والشعراء ،ولاسيّما من يكتبون في مجال قصيدة النثر، فقد استوقفني قليل من شعراء هذا اللون الصعب جدا، لا كما يبدو في ظاهره بسيطا متمكنا منه، سهل الأداء ،وهذا القليل من الشعراء، يعرفون أسرار الاشتغال ضمن مضمار هذه التجربة، التي تبدو بلا محددات أو ضوابط واضحة، لكنها مع شعرائها المتمكنين من أدائها أداءً مبدعاً جاداً ،تجد ضوابط وإن كانت خفية أو غير مؤشرة في قالب أو إطار ،إلا أنها تتضح مع حرفية وخبرة وجدية من تعاملوا معها من الشعراء .
أقفُ اليوم مع شاعرٍ تونسي أنهكته المواجع ونالت منه الأزمنة المفروشة بالرحيل في نخاع العظم،لكنه ظل من أبرز الشعراء التونسيين ممن يكتبون الشعر بحبر الرّوح ودم القصيدة، أعجبتُ بوعيه وجديته في تعاطي القصيدة الجديدة ،وعندما قرأتُ قصيدته المسماة”إرتحال” ارتحلت معها صوب الآقاصي دون التفكير في الهبوط على سطح الأرض،إذ وجدتُ في لغته ثراءً،وفي جملته حدة وتوتراً ووجعا يتخفى بين السطور،وفي موضوعته تحليقاً في فضاء من التخيّل المنطلق من هموم الإنسان وأوجاعه وقضاياه المختلفة ،فالشاعر التونسي القدير جلال باباي،قادم بقوة ،وبخطوة واثقة ليضعنا-جميعا-قسر الإرداة-في طريق الشعر المعبّد بالآمال والطموحات وكذا المواجع ،التي شحذت عزيمته وزادت من ابداعه وهجا والتماعا..وحتى لا أطيل على القارئ نستمتع معا بهذه القصيدة التي لولا بقايا كبرياء عربي لبكيت:
في قصيدة (ارتحال) يقول الشاعر-الأكودي-(نسبة إلى مدينة أكودة من ولاية سوسة الساحلية-موطن شاعرنا الجميل جلال باباي):
الآن..و هنا أتٌكأ على وتدين..أفترش الارض منفاي..مستقرا لفوضاي
وأخضر القمم
تلك لغتي تشيٌد حصن نخوتي
وتتطاول على مقامات السقم..
كنت أحسب شذى الوردة وجهتي الأولى وجرعة المرهم
خلت خريف عمري في حضرتها ربيعا
..فعمٌ اليباس ونضب ياقوت المنجم
تهاوت في مخدعها اهازيج العشق
وأمطرت سحابات يتيمة عويل وجعي ونواح الندم
لبستني وحدتي غشاوة من الألم
هو مجد العزلة في جسدي يتفحٌم
هي مازالت في شقاوتها تنعم
جفٌت ينابيع جنتها وتفشت رائحة الوهم
” كذب المنجٌمون ولو صدقوا “
صدقت نبوءة المتيمين وجنحت القصائد من حرير الهمم
ثم و بلا هوادة اسامقت ملحمة جنوني الناعم .
نتأمل هنا الوجع الإنساني والدور البديل ،الذي يضطر كل فرد في المجتمع بسبب الضغوط الحياتية والوجودية إلى تقبّل هذا الدور وتحمّل وجعه ،وهكذا يرصد الشاعر(جلال باباي) بإحساس عالٍ من الرهافة ،التحولات التي يعانيها الإنسان -بصبر جميل-، لينتهي أخيرا بنتيجة صادمة تمثّل صرخة ،تصلها القصيدة بحدة وإشارة ذكية للذات التي تأبى إلا أن تكون كما يراها الفرد الشاعر ،الذي استعار قناعا ،ليدلي ببوحه وينسج نصا متوترا جميلا،يعد من نصوص قصيدة النثر المؤثرة حقا .
وسأكتفي بهذا القدر من إشاراتي لبعض مفاصل-هذه القصيدة الموغلة في الإبداع..والمضمّخة في ذات الآن بالوجع-

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى