حــــذف
بقلم: ياسمين كنعان
قلت لك وأنا أنظر في عينيك مباشرة:”ماذا لو”…لو تعلم كم أحب هذه ال” ماذا لو”؛ فهي لا تفتح عمل الشيطان كما يقولون؛ بل تفتح عمل الكتابة!
ماذا لو كتبت المحذوف، تخيل معي كم من التفاصيل حذفناها بقصد، عامدين متعمدين!
فنحن نخاف أن نتعرى، لا أمام الغرباء فحسب؛ بل وأمام أنفسنا أيضا؛ ويكذب من يقول أتعرى أمام المرآة لأشاهد نقائص نفسي ولا أخشاها. كلنا أمام المرآة جبان!
حتى لو تعرينا أمامها سنتفادى النظر مباشرة في أعيننا، وسنشيح نظراتنا عنا، ولن نرى أنعكاسنا مكتملا، سنركز نظرنا على شيء واحد منا ونتجاهل التفاصيل الأخرى!
ماذا لو فكرت بشكل جاد، وبعد تفكير طويل قررت تجميع كل ما سقط مني وما شطب من نصوصي وقررت كتابتها على صفحات بيضاء..يا إلهي..تخيل !!
سيكون الأمر أشبه ما يكون بلعبة تجميع ضخمة “Puzzle”؛ وستكون بقطع كثيرة..كثيرة، لا تعد ولا تحصى؛ وستكون كافية لتغطية بلد بأكمله أو بلدان كثيرة، وربما أكثر!
إنها عمرنا المحذوف، لحظاتنا المحذوفة، و دقائق وثواني وساعات ضائعة..إنها أمنيات مهدورة والكثير الكثير من البوح؛ والكثير من المسكوت عنه؛ والكثير من الجبن والخوف وحبات العرق!
كم كنا جبناء حين مارسنا الحذف، كم كنا جبناء حين سكتنا؛ فالسكوت حذف أيضا، والصمت حذف!
أن تسكت كي لا تحكي…تخيل كم سكتنا وكم حذفنا بسكوتنا وصمتنا، وربما كم قتلنا أيضا!
قتلنا مشاعرنا، أحاسيسنا، رغباتنا، أحلامنا…حذفناها وتجردنا منها كي نتوائم مع الواقع؛ وكأن كلامنا إعاقة والسكوت أفضل طريقة للموائمة!
كم ترعبني فكرة تجميع وإعادة كتابة ما حذفت !
لو كان لي أن أكتب المحذوف؛ ربما كنت كتبت نفسي؛ صحيح أني كتبت عنها كثيرا، ولكنني لم أكتبها أبدا، وكنت أمارس الحذف مرارا وتكرارا، و أسقط عنها ما قد يثير حنق القراء!
كنت كغيري أتقنع بأقنعة متعددة، وأحيط نفسي بهالة من الغموض!
لا تصدق من يقول لك “أحبك وأرضى بك كما أنت”..لا أحد يحبك كما أنت؛ حتى في الحب أنت لست أنت؛ وسيضعون عليك الكثير من طبقات المكياج والصفات كي تتوافق مع رؤاهم وأحلامهم إنهم يمارسون عليك الحذف على نحو ما فكل إضافة حذف أيضا !
أنت لا تشبه نفسك حتى في خيالك..تدخل الخيال لكي تتجمل؛ وهناك أيضا تمارس الحذف على ذاتك وظروفك وواقعك؛ ولفرط الحذف تصبح ما يريدون لا ما تريد !
لو كان لي أن أكتب ما حذفت؛ سأكتب عن كل من أحببتهم ولم يحبوني..عن كل هزائمي؛ عن كل من أحبوني ولم أحبهم، عن كل من خذلتهم وخذلوني، عن كل الحماقات التي ارتكبتها بحق نفسي، عن الظلم الذي ألحقته بنفسي وغيري، عن الندم الذي يعتريني في لحظة لقاء عابرة مع النفس، عن فراري المستمر مني..وعن خوفي من الدخول إلى متاهات ذاتي!
لو كان لي أن أكتب ما حذفت؛ كنت سأكتب أسماءمن عبروا حياتي، وكل من أسعدها أو أفسدها، وكل من عذبني وكل من قتلني وكل من قتلته بلا رحمة؛ فلست بريئة لا من دمائي ولا من دمهم..
آثمة أنا وضآلة، و مزاجية أيضا …أتعذب وأعذب غيري، ولست بريئة تماما كما تظنون؛ حذفت الكثير من الوجوه، ألقيتهم دون رحمة في هاوية النسيان، ولم أترحم عليهم، و أبقيت أجسادهم مكشوفة ولم أذرف عليهم دمعة ولا حفنة تراب واحدة…لعنتهم وتركتهم يموتون مرارا في العراء قلت وأنا أبصق عليهم..”لتأكلكم كل السباع والوحوش ولتنهش أجسادكم الغربان، و لينخر النمل عيونكم، ثم استدرت ومضيت”!
حذفت نفسي أيضا وكثيرا؛ ألغيتها تماما..فإن كنت سأكتب المحذوف، فلن أكتب إلا نفسي!
…وقد تأتي الحماقات صباحا