العَسّاس

 يكتبها : محمد فيض خالد

مِن فوق ظهر حمارهِ الضّخم، يمسك ببردعتهِ المُطهّمة بخشيتها السّوداء، كهلا قاربَ الثمانين، رغم بساطته، تراهُ رائق الهِندام، بادي النّظافة، يقبل هاشا باشا مُهلّل الوجه ، ما إن يُشرِق تِلكَ الإشراقة التي تملأ القلوب نورا وضاءا، حتى تنهال عبارات التِّرحاب ، يُقابلُ كُلّ ذلك بابتسامتهِ الغريرة التي لم تختل أبدا، رأيته ذاتَ أصيل استوقفتني ملامحه الواضحة الحنونة ، وجسده الفاره بلا ضمور، آنست منه كغيري كلاما معسولا؛ يجذِب الأسماع، مأنوس الدُّعابة موفور التّسلية ، يتردّد ذكره بين الفلاحين صباح مساء، تردّد اللَّحن الشّجي ليل الصّيف السّاهر، من عرفه أحبّه وتعلّق بهِ، ولَعلّ في أمانته وصدق حديث ما أهّله لذلك، فهو لا يُفشي ما تُؤتَمن عليهِ بنات القلوب، تتبعه العيون حال سيره فوقَ الجُسورِ ، فتثير البهجة والائتناس مقدمه ، قَالَ أهل الزِّمام: لقد ورِث مهنة ” عسّ” البهائم عن أسلافهِ، قصّ “عوف الحداد” ، وهو يُحرِّك برّاد الشّاي فوقَ الكانون: إنّ الحَجّ “أمين العَسّاس ” أوتي خبرة كبار البيطريين ، ولديه لكُلّ معضلةٍ إجابة . يستطيع بلمسةٍ واحدة من أناملهِ الطوال ؛ تحديد نوع الجنين ، وعمره في بطنِ البَهيمة، له الكلمة الطولى حين تسقط كالسَّيفِ فوق َ الرِّقابِ، يُستدعى بعد لأيٍّ ؛ ليزيل الغَبشَ عن كثيرٍ من المنازعاتِ التي تجري بين الفلاحين وتجار المواشي ، ما إن تلحظه عين الطّماع، حتى يَذوب ذوبان الملح في المَاءِ ، يُردِّد في همسٍ طَرَفا من أذكارهِ ، يَنزَع يده في تريثٍ ، تعتقل تفكيره حيرة خرساء ، يَظلّ لدقائقٍ يمرس يده بطرفِ جِلبابهِ ، وكأنّه يسبرُ غَور أفكاره ، يطوف بنظرهِ في الجمعِ المُترقّب، وقد بدت على وجوههم جهامة وشكوك ، ثم يُعلِن نتيجة فحصه ، لا تستطيع قوة صرفه عن رأيهِ، ترفع “فكيهة ” الدلالة يدها بالدعاءِ ، وقد مضى الألمُ في معارفِ وجهها ؛ أن يُطيل الله في عمرهِ، حين أنصفها وانقذ بقرتها من بخسِ أحد التجار، بغيرِ شهود ” العَسّاس ” لا يتمّ بيع ولا شراء ، وهو مع رِقة حالهِ وطيبة قلبه ، عفيفا طاهر الكّف ، يبرق الغضب في عينيهِ فيخلع عنه وقاره، كما يخلع نعليهِ مع أولئك الذين اعتقدوا أنّ ضمائر النّاس ، سلعةً تقبل المساومة، حباه الله ذاكرة صلبة تسعفه عند اللّزومِ ، جعلته يُدوّن في رأسهِ مواقيتَ الولادة، يقولُ لجلسائهِ مُنَتشيا : إنّه يقبل دعوة تخرج من فمِ جائعٍ ينتظر الخيرَ من بهيمتهِ عن كنوزِ الدُّنيا ، تسلّلت الأيامُ منهُ وقد انَحصرَ فيهِ اتزانه ، ونَاَلَ التّعب منهُ كُلّ منالٍ ، فأصَبحَ بينَ عَشيةٍ وضُحاها خَائر القوى ، يَلوحُ على وجههِ شبح الموت، افتقدت الحقول طلّته الموعودة، تدريجيا انزوى في ذاكرةِ الأيام ، ليصبحَ ذكرى باهتة تتأرّجَح قلقة على أمواجِ الزَّمن ، هَبطت قريتنا ذاتَ صَباحٍ سيارة فارهة ، اطلّ شابٌ في رَيعانِ شبابهِ من خَلفِ زجاج نظارتهِ السَّوداء الثَّمينة ، سَألَ في ترفعٍ عن بيتِ أحدهم ، مِلت نحو جليسي في فُضولٍ : مَنْ يكون صَاحِب الطّلة المُتَعجرِف ، أجابَ مُتثاقلا في تثاؤبٍ : الدكتور البيطري ، نفضت جلبابي الكَالِح ، احكمت طرف مسبحتي الخشبية بين أصابعي ، واطرقت استغفر لذنبي وللمؤمنين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى