الوقائع الحقيقية هي التي تجعل النصوص أمراً ممكناً

د. خضر محجز | باحث وشاعر ومفكر

  

إضاءة:

المادة الأساسية لهذه السطور مستمدة من مقال سجالي مع المفكر الفلسطيني: أحمد حسين

لا يمكن طرح أسئلة مجدية, داخل مشهد ثقافي يستند إلى ثقافة غيبية شاملة: لأن شمولية الغيبية تنفي السؤال الفكري من أساسه، تحت طائلة الإرهاب الفكري, وسيف التكفير؛ وتُحيل إلى مرجعية قارّة, لا تحتمل المراجعة؛ ناهيك عن الاختلاف.وإذا كانت التجربة التاريخية العربية ـ منذ معاوية حتى الآن ـ تستند إلى مثل هذه المرجعيات, بل وتؤسس لها, ابتداءً من اختراع مذهب أهل السنة والجماعة؛ إلا أن ذلك لا يعني, بالضرورة, إحالة أسباب هذا الانغلاق إلى الإسلام نفسه, كما حلا لبعض المتسرعين أن يقولوا، جراء كل هذه الأعمال الحمقاء التي حدثت في غزة، وجراء كل هذه الأكاذيب المتعمدة الملفقة المصحوبة بالأيمان المغلظة. فالإسلام شيء, والتجربة المنسوبة إليه شيء آخر.

وإذا كان تعبير الإسلام السياسي, يحيل إلى مجمل النشاط الثقافي والسياسي العربي, طوال تلك الفترة التي سُميت إسلامية, فإنني أستطيع الاتفاق مع كل من يرفضون هذا النوع من الإسلام, دون أن يمس هذا بتديني الذي أعتز به؛ لأنني من تلك القلة التي تعتقد بأن دين الله لم تتم ترجمته إلى واقع سياسي ثقافي حقيقي موضوعي، إلا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم في عصر صاحبيه أبي بكر وعمر فقط. وكل ما جاء بعد ذلك إنما هو مجرد تاريخ ـ بالمعنى الثقافي ـ أي تجربة تتأثر بكل علاقات الإنتاج الدنيوية.


أقول هذا وأنا أعلم أن مثل هذا الكلام يغضب عدداً كبيراً من مقدّسي اللامقدس.وما ذاك إلا لأنني لا أزال معتقداً بأن أغلب ما فعله الخلفاء والسلاطين والعلماء، بعد ذلك, كان محكوماً بسلطة التاريخ, قبل سلطة الغيب, وبسلطة القوة قبل سلطة المعرفة الدينية. وإن موافقة من جاؤوا بعدهم, على اعتبار كل ما مضى, في تلك العصور (إسلاماً من عند الله), كان هو الفاعل الأول في تأسيس سلطة الغيبيات, التي ليست في الحقيقة من الغيبيات. ولنضرب مثلاً لذلك بما جرى, تاريخياً, من تأسيس لسلطة الحاكم المطلق ودولته الثيوقراطية:

لقد قرر الإسلام عدة مبادئ تحكم العلاقات بين الحاكم والمجتمع والأفراد, وحدود كل منهم, من أهمها ما يأتي:

  1. كفالة حرية الفرد في القول والعمل والاعتقاد: (لا إكراه في الدين. قد تبين الرشد من الغي).
  2. المساواة بين الأفراد على أساس مبدأ المواطنة, لا الدين: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا).

  3. حق المشاركة في اختيار الحاكم ومحاسبته, مما يعني ابتداءً حقَ الخروج على الحاكم, عند تحقق الانحراف: (إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني).

فماذا حدث بعدُ, في التجربة التاريخية للدولة التي سمت نفسها إسلامية؟!.

لقد استبد الحاكم, منقلباً على المبادئ الأولى التي جاءت به، معلناً أنه لا يستمد سلطته المطلقة من الشعب, بل من الله مباشرة، وصمت بعض العلماء, ووافق أكثرهم, وانبرى الشعراء والخطباء ــ مثقفو تلك الحقبة ــ ليطلقوا أبواق الإعلام الكبرى, تمجيداً لهذا القرار، وتحذيراً من مخالفته؛ حتى وُصفت الكلمة القصيرة التي ألقاها أحدهم بأنها أبلغ الخطب. وهذا هو نصها وسياقها:

“اجتمع الناس عند معاوية. وقام الخطباء لبيعة يزيد. وأظهر قوم الكراهة. فقام رجل من الخطباء من عذرة, يقال له يزيد بن المقنع, فاخترط من سيفه شبراً, ثم قال: أمير المؤمنين هذا؛ وأشار إلى معاوية. ثم قال: فإن يهلك فهذا؛ وأشار إلى يزيد. ثم قال: فمن أبى فهذا؛ وأشار إلى سيفه. فقال له معاوية: أنت سيد الخطباء” (الأبشيهي. المستطرف/111).

وقد أسس كل هذا لسوابق تاريخية, اعتبرها منغلقو التدين نصوصاً لها قداسة الحديث الصحيح: فسقط حق الفرد في الاختيار والمحاسبة، واستأثر الحاكم لا بالسلطة فحسب, بل بالمال كذلك, وتصرف في خزينة الدولة (بيت المال) كإقطاعية خاصة منحها له الله, إلى حد وقوف الخليفة المنصور ليخطب في الجماهير ويقول:

“أيها الناس, إنما أنا سلطان الله في أرضه: أسوسكم بتوفيقه وتسديده, وتأييده وتبصيره, وخازنه على فيئه, أعمل فيه بمشيئته, وأقسمه بإرادته, وأعطيه بإذنه, قد جعلني عليه قفلاً: إذا شاء أن يفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم, فتحني, وإذا شاء أن يقفلني عليها أقفلني. فارغبوا إلى الله واسألوه, في هذا اليوم الشريف… أن يوفقني للصواب والرشاد, ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم, ويفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم”(ابن قتيبة. عيون الأخبار/251…).

فهل بات واضحاً لنا الآن من أين يستمد موزعو الكوبونات على الأعوان، مرجعياتهم؟!.

ولئن تجرأ المنصور على قول ما قال، بموافقة العلماء والأئمة, مقابل منحهم بعض المكاسب الاقتصادية والاجتماعية البسيطة؛ فلقد حُق لنا الآن، بعد كل هذه العصور، أن نعيد قراءة علاقات الإنتاج الدنيوية هذه، مقررين أن هؤلاء العلماء (المتدينين جداً) هم من كتب لنا كتب الفقه والتاريخ, وهم من أضفى على التجربة التاريخية قداسة لا تستحقها. وإن نظرة سريعة إلى الألقاب التي يحملونها ـ وتبرز أمام أسمائهم المطبوعة على أغلفة الكتب ـ تعطينا الدليل: فمن قاضي القضاة, إلى إمام الحرمين, إلى المفسر القرشي (وطبعا هذا المفسر القرشي سيفسر كتاب الله ككتاب أُنزل لحماية وقفيات قبيلته), إلى حجة الإسلام… وإيانا أن نظن بأن هذه مجرد ألقاب تشريفية ــ على أهمية ذلك ــ بل هي مناصب حكومية تتيح لحامليها الحياة الآمنة الرغدة, ثمرة هذا التحالف الحرام مع الحاكم. ولعل بعض ذلك هو ما أتاح لهم النظر إلى باقي الناس باعتبارهم مجرد دهماء، وغوغاء، وعامة، وسوقة، ورعاعاً سفلة… إلخ هذه الألقاب. ونحن لا نزال إلى اليوم, نسمع كثيراً من المنتسبين إلى هذا الدين, يستخدمون هذه الأوصاف الشائنة, في وصف المواطن, الذي يبني لهم المساجد, ويجلس يوم الجمعة يسمعهم يقصون عليه ما لا يعرفون, حتى إذا ضاق صدره بسخافاتهم, استعصم بالصمت, تخوفاً من مغبة مقاطعتهم؛ فيما هم صادرون في أغاليطهم, كببغاوات لا تجد من يغلق لها أفواهها.

لقد تقادم الزمن على هؤلاء العلماء ــ وتقادمُ شيءٍ في الثقافة الدينية يعطيه قداسة، ويمنحه حقاً مكتسبا ــ بحيث لم يعودوا يقنعون، إلا بحكم يمنحهم سلطة مطلقة. وليت شعري, ما نوع القوانين التي سيطبقها عليّ شخص، صار عضوا في البرلمان بأصوات (الرعاع)؟. وأين حدودها, وأين حدوده, وهو يقول أمام كل الناس, ذات خطبة ميمونة: “الحمد لله الذي جعلنا سدنة أبواب السماء”!. وكيف سأناقش سادن باب السماء هذا، ثم لا أكفر, وأنا مجرد واحد من هؤلاء الدهماء, السفلة, الغوغاء, العامة, السوقة, الرعاع!..

كل هذا يحدث. ومثل هذا حدث. لكنني، من ناحية أخرى، أظن أن القارئ سوف يتفق معي ــ رغم كل ما مضى ــ على أن الإسلام هو الذي صاغ الأمة العربية, وطبعها بطابعه؛ بله أوجدها ابتداءً: فنحن لا نعرف شيئاً اسمه الأمة العربية قبل الإسلام؛ اللهم إلا إذا اعتبرنا أعراب الجزيرة, الذين خدموا الممالك المأجورة في الشرق والغرب, هم الأمة العربية, أو إذا اعتبرنا الكنعانيين والفلسطينيين والأشوريين والفينيقيين والكلدانيين أمة عربية, رغم أنهم لم يتحدثوا اللغة العربية ولم يكتبوا بها. ومعلوم أن اللغة هي أهم مقومات الأمة, لأن أي كيان حضاري ثقافي لن يكون له وجود خارج اللغة, وبالتالي فإن أي وجود إنساني، يتحدث لغة غير اللغة العربية، لا يمكن اعتباره وجوداً عربياً, وقد يمكن اعتباره ــ في أفضل الاحتمالات ــ أحد مكونات هذه الأمة التي ستتشكل بالإسلام فيما بعد.

نحن الشعب الفلسطيني ننحدر سلالياً من مجموعة من الشعوب, بعضها أصلاني وبعضها قادم: فنحن سلالة كل من الفلسطينيين القادمين من جزر بحر إيجة, والكنعانيين والفينيقيين القادمين من الجزيرة, والعرب الجاهليين الذين هاجروا إلى هذه البقعة قبيل الإسلام, والعرب المسلمين الفاتحين الذين جاؤوا لنشر الرسالة الجديدة, ثم استوطنوا, وجاوروا, واختار كثير منهم الرباط في الأرض المقدسة.

سكن أجدادنا الأوائل من الكنعانيين هذه الأرض, وأقاموا عليها حضارتهم, وحققوا عليها وبها هويتهم القومية, قبل أن تنزل الأقوام الأخرى عن الأشجار. وبعد تنزّل الديانات, وقدوم بني إسرائيل, إلى فلسطين, لم يجدوها خالية. لأن أجدادنا كانوا هنا: قبل كل المعارك، وبعد كل المعارك. ولقد كانوا مختلفين ــ دينياً وإنسانياً ــ عن صورة هؤلاء القادمين في التوراة, الذين سوف يدعي نسلهم, بعد ذلك, أنهم قدموا بأمر رباني من السماء.

وعند هذه النقطة يمكن طرح مسألة الخلاف, المفتعل, بين المسألة الدينية والمسألة القومية.

أقول بادئ ذي بدء, وقبل كل نقاش, بأن هذا الخلاف هو آني وأظنه مفتعلاً, يخطئ في التشبث به كل متطرف من الجهتين؛ لأن الله حين سمح لبني إسرائيل بسكنى المنطقة, لم يأمرهم باحتلالها وغزوها، وحرق أشجارها ومبانيها وحيواناتها، بالطريقة التي وصفتها التوراة التي بين أيدينا، بل حضت عليها، باسم إلهٍ قاسٍ له اسم غريب يشبه أسماء آلهة الإغريق ــ يهوه أو رب الجنود ــ الذي لا يمكن أن يكون هو الرحمن الرحيم الذي نعرفه. وهذا الإله الرحمن الرحيم، الذي نعرفه، هو الذي سمح لهم باللجوء إلى فلسطين, ليأكلوا خبزتهم ويأمنوا على دينهم؛ الذي هو الدين الصحيح في ذلك الوقت. وكان بإمكانهم أن يعيشوا جنباً إلى جنب مع أجدادنا الجبارين, حتى بعد انقضاء المعارك الأولى, ويصبحوا جزءاً من الفسيفساء المكونة لشخصية سكان هذه المنطقة, لكنهم تقوقعوا وانغلقوا، ثم انحرفوا عن المبادئ التي سمح الله لهم بموجبها أن يحضروا إلى هنا.

لقد جاؤوا وكنا, ثم انحرفوا واهتدينا, ثم ذهبوا وبقينا, إلى أن انتقلت راية الدين إلى أجدادنا العرب. وإذ يدلنا التاريخ على أن كل المنحدرين من كل السلالات تقريباً, قد أسلموا ــ باستثناء اليهود ــ على أيدي هؤلاء الأجداد العظام؛ فلقد يشرح لنا هذا شيئاً من الطبيعة العنصرية، التي تميز بها هؤلاء اليهود، عن باقي سكان المنطقة. ولا شك أن نوازع هذه الطبيعة العنصرية، هي التي لم تتح لهم الانسجام مع كل هذا المحيط. ولا شك أن ذات النوازع كذلك، هي التي سوف تظهر لهذا للقادم الجديد ــ ذات نكبة ــ كل هذا المحيط غريباً وناتئاً ويستحق الاستئصال.

لقد جمع أجدادنا, من سلالة الجبارين, أخيراً, بين جبروت السلالة الأصلانية, وقوة الروح الجديدة. ومع ذلك, فلم نكن نحن الذين رحلنا اليهود أولاً, كما لم نكن نحن الذين أبدناهم آخراً, فبأي حق بعد ذلك يطالبون؟.. أبحق التاريخ!. فالتاريخ لا يحفظ صيرورات ماضية غابت واندثرت, بفعل عوامل الإحلال والإبدال الزمنية.. لقد استبعدهم واقع المنطقة جغرافياً وسياسياً وثقافياً, وآثروا الانعزال. وحملنا نحن ما عجزوا هم عن حمله. واهتدينا لأرفع رسالة سماوية, تأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي… أفبعد ذلك نتساوى وإياهم في المرجعية الدينية؟!. كيف, وهم الذين تنص كتبهم على أنهم أبناء الإلٰه الذي محضهم عطفه, دون سائر البشر, وأمرهم بدين يعشق الحرق والقتل والتدمير والتطهير الدموي ورفض الغفران!. كيف يستوي هذا مع دين يمنع قطع الشجر وقتل الشيوخ والنساء وغير المحاربين وهدم المعابد, ويكفل الحرية الدينية والمدنية والاقتصادية لكل المواطنين!.

إنني لا أود الانجرار إلى مناقشة الأمر من منطلق ديني بحت. لكنني فقط أود القول بأن الماضوية التاريخية ــ لا الإسلام ــ هي التي أساءت للأمة والدين والدولة والفرد, لأنها هي التي تبنت كل ما جاء من خرافات وأساطير, في التوراة التي يقرر ديننا بأنها تعرضت للتبديل والتحريف، ومارست بفضل المفسر القرشي وأمثاله محاولات عدة، لإقناعنا بقبول الرواية التوراتية للتاريخ.

لسنا مطالبين بالتصديق بما جاء في هذه التوراة, التي بين أيدينا اليوم. لكننا مطالبون بتصديق ما جاء في الكتاب المهيمن على كل الكتب, والناسخ لجميعها. وهو يقول بأن هذه الأرض مباركة, وقريبة إلى السماء, وأُسري بنبينا صلى الله عليه وسلم إليها, ليصلي بالأنبياء فيها, ثم يُعرج به إلى السماء منها. ومات فيها ودُفن عديد من أصحابه المقربين؛ دون أن ننسى أنها ــ حتى لو لم تكن كذلك ــ فهي موطننا, وبيتنا, ومكاننا, الذي نُنسب إليه, ونحقق به وفيه هويتنا الحضارية والإنسانية؛ وبالتالي, فنحن مطالبون بالدفاع عنه وفق حقين: حق المواطنة, وحق الدين. أليس هذا خيراً من الاكتفاء بحق واحد!.

وإذا كانت الأديان حقاً من عند الله ـ وهي كذلك بالقطع ـ فإن أمر الله لبني إسرائيل, بسكنى الأرض المقدسة, لا يعني بالضرورة طرد سكانها الأصليين, أو ذبحهم وإحراق جثثهم, لمجرد أنهم لم يوافقوا على اعتناق دين بني إسرائيل, خصوصاً وأنه لم يكن موجها لغير الإسرائيليين, حتى في أصله السماوي الصحيح. فهذه الرواية الدينية الصحيحة للتاريخ, قد تصلح أساساً للسماح لبني إسرائيل بالسكنى, مع السكان الأصليين هنا, في فترة زمنية محددة, وبشرطين واضحين ملحقين بالعقد: التوحيد والعدل. فماذا كان؟. لم يوحدوا, ولم يعدلوا ــ كما شهد بذلك أنبياؤهم في توراتهم الحالية نفسها ــ فاستحقوا أن يُطردوا ويبقى السكان الأصليون. ثم حدث بعد ذلك أن طبق السكان الأصليون الشروط المطلوبة, وفق ما جاء بها نبيهم, فاستحقوا أن يجمعوا, إلى جبروتهم السلالي الأول, قوةً روحيةً, طالما ادعى الدخلاء اقتصارها عليهم, بتدخل عنصري من رب الجنود. وهذه القوة الجديدة هي التي حفظت على أجدادنا وجودهم القومي, ثم امتدادهم وتوسعهم في كل أنحاء العالم القديم.

وهناك مناقشة ذات لون آخر, من منطلق تاريخي لاديني, يمكن أن يناقش من خلالها, من لا تعجبه التفسيرات الدينية من هذا النمط. وتقول: إذا كانت الأديان كلها مجرد هراء وغيبيات, لاعقلانية وغير ملزمة, كونها نشأت في مرحلة طفولة العقل البشري, فإن الجغرافيا السياسية ستكون هي المرجع, وذلك يقتضي أن من سكن المنطقة أولاً هو صاحب البيت. وأجدادنا الأوائل سكنوا هنا، من قبل أن تسكن الطيور أعشاشها. فمنذ متى جاء بنو إسرائيل هنا, حتى يدّعوا لأنفسهم حقاً في تملك بيتنا, وحراثة بياراتنا, وطردنا خارج كل من الجغرافيا والتاريخ؟!.

أعتقد أنه يمكن اللجوء إلى أحد هذين الشكلين, من النقاش, عند طرح موضوع الهوية القومية لهذه الأرض، بدلاً من تصديق مقولة جاهلة لسياسي عنصري (دزرائيلي) يكره اليهود كما يكره العرب, ويقتنص المناسبات للسخرية منهما, متناسياً أن الأوروبي المسيحي ــ لا العربي ــ هو (اليهودي الذي يركب عربة بخارية), كون كل اعتقاداته نابعة من التوراة, التي يعتبرها أكثر قداسة من العهد الجديد. وما هذه التيارات الصهيومسيحية إلا مصداق قولي هذا.

إن التدين الحق لا يمكن له أن يلغي التجربة البشرية, فالتاريخ هو فعل البشر الدنيوي بشروط الدنيا. هكذا قال الإسلام وهكذا أمر, كما في قوله تعالى: “وأعدوا لهم ما استطعتم”. فالاستطاعة هي بذل أقصى الجهد, وفق الشروط الموضوعية والذاتية, لا بذل أقصى السكون، وانتظار تحقق معجزات الإيمان الغيبي. إن الإيمان بالغيب هنا هو دافع للعمل, لا ذريعة للاستسلام. ولقد أسيء إلى الإسلام بهذا الشعار الجاهل: (الإسلام هو الحل)، ليقال: حسنا, فلماذا لم يوفر هذا النوع من الإسلام حلاً لمشكلة الفقر والتخلف في السودان وأفغانستان, ولماذا لم يكفل توزيعا أكثر عدالة للثروة في السعودية, وكلها يرفع هذا الشعار, أو رفعه, ردحاً من الزمن؟.

إن الحقيقة الموضوعية تطالبنا بأن نقلب هذا الشعار رأساً على عقب؛ فنقول: (الحل هو الإسلام)؛ لأن حل مشاكل الناس, وتأمين الحرية لهم, وكفالة الطعام والمسكن والتعليم والدواء, هو الإسلام, الذي جاء به سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. ألم يقل الفقهاء العدول: “حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله”؟. أم تريدون أن نجربكم مرة أخرى على حساب عمرنا؟.

حسنا, ها نحن قد جربناكم في غزة مكرهين، فماذا كان؟!. هل حققتم وعودكم الانتخابية بترخيص السلع ونشر الأمن ومنع الفساد؟!. أم أنكم ما زلتم متجاهلين أن وعودكم تلك كانت العهد الذي استحللتم به الوصول إلى السلطة، وصرتم الآن ملزمين بالوفاء به، كاملاً غير منقوص؟!: هل انخفض سعر الطحين والغاز والمحروقات والزيت والعدس والأرز والفول، أم أنها تضاعفت أضعافاً مضاعفة، بفعل الضرائب الجديدة التي فرضتموها، مع علمكم أنها (مكوس) محرمة، الزنا أقل حرمة منها؟!. أم لم تقرأوا حديث رسول الله في حق (الغامدية) بعد رجمها: “لقد تابت توبة، لو تابها صاحبُ مكسٍ، لغُفر له”!.

كرمى لله، أيها الناس، دعوا شعارات الإسلام بعيدة عن متناولكم؛ فلقد أصابها على أيديكم، والله، ما يصعب مداواته في قرون.

إن ممارسة الثقافة، كالممارسة الصحيحة للدين. وإن الممارسة فرع عن التعريف, لا العكس. فلا يمكن ممارسة نوع من النشاط الإنساني, بشكل خاص, وفق هذه الطريقة أو تلك, ثم إرهاق اللغة بتعريفه, واعتباره هو الثقافة. لأن الثقافة الحقيقية هي النقد: نقد الواقع, ونقد النصوص, ونقد آليات السلوك الإنساني في استقبال النصوص والتفاعل معها.

لا يمكن أن تكون هناك ثقافة وطنية تتصالح مع المؤسسة, حتى في حالة وجود الدولة الحرة الديموقراطية. ولا يمكن أن يكون هناك تدين صحيح يستطيع الحكام الاستيلاء عليه؛ لأن الدولة استقرار يعبر عن نفسه بالمؤسسات, أما الثقافة والدين فكل منهما نقد لما هو متحقق, في سبيل تحقيق ما هو أفضل. وإن ممارسة النقد لا تعني, البتة, إضفاء مسحة من الشرعية على الوضع الحالي, أو الالتحاق بموكب طبقة كهنوتية من البطارقة وحراس المؤسسة. إن السؤال الثقافي لا يجد إجابته إلا بالربط بين النصوص والوقائع الوجودية للحياة البشرية, والسياسية, والمجتمعات, والأحداث. فالوقائع المتعلقة بالقوة والسلطة، وضروب المقاومة التي يبديها الرجال والنساء, والحركات الاجتماعية, والسلطات والمعتقدات التقليدية؛ هي الوقائع الحقيقية, التي تجعل من النصوص أمراً ممكناً ــ كما يقول إدوارد سعيد ــ وهي التي تحفظ على السؤال الثقافي انشغاله وتطوره, بل كينونته وهويته القومية والإنسانية: أي أنها هي التي تدمجه بالعالم.

بهذا تبدع الثقافة التجاوزات, وبهذا تحقق صيرورتها وهويتها وأهدافها، وتكتشف وسائلها. وكل محاولات عزل الثقافة عن العالم, باستخدام شعارات نصية, تعيد اجترار شعارات مدرسة الفن للفن, إن هي إلا محاولات تتشابه، في منطلقاتها النفعية، مع النزعات النصية السلفية، التي قدر لها أن تزدهر اليوم بفعل الإسلام السياسي، ومكتوب لها الفشل, لأنها منبثقة عن إرادة لاقومية, تمت صياغتها إما في مؤسسات صنع القرار الديني خارج المنطقة العربية، أو في مؤسسات صنع القرار الثقافي في أمريكا, خلال مرحلة تنامي المد الصهيومسيحي، في عهد الرئيس الأسبق ريغان, ثم كانت انطلاقتها الكبرى في عهد بوش الابن.

إننا لا يمكن أن نتكلم في الثقافة, في نفس الوقت الذي نغمض فيه أعيننا عما يجري في فلسطين والعراق وغوانتانامو, كما أننا لن نتمكن كذلك من الحديث الجاد في الشأن الثقافي, دون التطرق إلى هذا الفساد الذي ينخر المؤسسة, ويرهنها لحفنة منتفعة, تنظر إلى الوطن من بين فخذي امرأة تقطن البيت الواسع, ثم لا ترى بأساً في أن تمتع أنوثتها بإبداعات البواب المحروم, لأنها تعرف بالتجربة أن إبداعات المحرومين تأتي, في لحظتها, كاسحة عميقة, كموجة هادرة تصل الشاطئ ثم تعود من حيث أتت. ليظل بعدها البواب بواباً, وتظل السيدة سيدة, ويظل العالم الفاصل بينهما واسعاً عميقاً. بل ربما أنجبت السيدة ابنها من البواب, وأعطته هويتها, لينطلق ــ ذات مذبحة ــ ليقتل أخاه من المرأة الأخرى.

إن الأسئلة لتتكاثر. وإن عالم الاستشهادات ليتزايد. لكن السؤال سوف يظل مطروحاً كما هو, حتى نعرف ما نريد, ثم نبدأ بسلوك طريق ما نريد. والجواب ــ حسب رأيي ــ يتمثل في عبارة بسيطة لا تحتاج إلى كثير تفسير: نريد مجتمعاً متحرراً, يبدع ثقافة لا تنفصل عن مرجعيات ديناميكية, ستقوم بدورها بإبداع أسئلتها الجديدة, وصولاً إلى مناقشة المرجعيات وتطويرها, ومن ثم إعادة صياغة أسئلة جديدة… وهكذا, في حركة ذات طبيعة جدلية تنتِج وتنتَج في آن, ويتفاعل فيها الثقافي مع السياسي, والعكس بالعكس, تحقيقاً للهوية وإجابة على أسئلتها. ولئن كان الإسلام هو أحد هذه المرجعيات الكبرى, بصفته المكون الأساسي للهوية؛ لنقولن منذ الآن بصوت مرتفع، بأنه: سوف يكون إسلاماً لا يعترف بكل ممارسات التجربة التاريخية, ولا بكل هذه الاجتهادات السياسية, التي أسهمت في صناعة التخلف, والتأسيس للطغيان. إما هذا، وأما أن نسقط عن كاهلنا ما تقولون لنا إنه الإسلام، ونقول: إنه مأكلة قليل من الأفاقين ومفسري النصوص، ومعبري الأحلام.

إننا نستطيع ــ بالقطع ــ أن نبني دولة ديموقراطية, تكفل الحريات, وتحقق العدالة الاجتماعية, وتفتح للمجتمع المدني فضاء التنفس, وتؤسس لنظام محاسبة ومراقبة وشفافية, يضمن ملاحقة كل متجاوز, ويوقع به العقاب المناسب، من الرئيس, حتى الغفير. إننا نستطيع أن نفعل ذلك فعلاً. والإسلام يطلبه ويسمح به, لأن منطقة المحرمات القطعية فيه محدودة ومحصورة ومرنة. فإذا ما نص الدستور على كفالة ذلك ــ بأية طريقة ــ فلا بأس بفصل الممارسة السياسية عن الممارسة الدينية, وإعطاء كل ذي حق حقه. فالإسلام ــ أولاً وآخراً ــ هو دين الحياة لا دين النصوص.

 

والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى