مقال

قراءة في ديوان “اتمخطري يا خيل” للشاعر محمد رمضان

الشعر بين نقد الواقع وقداسة الكلمة

د. السيد العيسوى | القاهرة 

سعدت بقراءة ديوان الشاعر محمد رمضان “اتمخطري يا خيل” بالعامية المصرية، وأود أن أقدم قراءة عامة للديوان، مركزًا على إحدى السمات البارزة فيه، مع تقديم بعض النماذج والشواهد، مع إطلالة فنية عامة بما يتناسب مع حجم المقال.
فقد تميز الشاعر بتنوع الروح، فالشاعر مصري حين يتكلم عن مصر، عربي حين يتناول القضايا العربية، إنساني حين يتناول القضايا الإنسانية، ولذا نجد تطوافًا مختلفًا في هذا الديوان، يعبر عن ثراء الروح والرؤية والقضايا. وإن برزت القضايا السياسية والروح المصرية أكثر. ولكنه تحدث عن القضايا السياسية والوطنية والإنسانية وتحدث عن الحواري والأزقة والأزهر والحسين وتحدث عن الشاعر وعن الطفل وعن الكبير وعن الصغير، وتحدث في الحب وفي النقد وفي محاور مختلفة، بوصفه شاعرًا متفاعلا مع أجواء الوجود من حوله.
وهناك سمات أخرى متفرعة، غير أنا نود أن نقف أمام سمتين مع التمثيل والتحليل وهما نقد الواقع والسخرية اللاذعة، ثم قداسة الكلمة ودورها الاجتماعي والروحي.
ربما كان وراء سمة نقد الواقع، أن الشاعر متطلع دائمًا إلى واقع أفضل، ولذا نجد عنده نقد الواقع مسألة محورية في كثير من قصائده، لا سيما الوطنية والسياسية. وهذا اللون بارز في قصائده.
وهذا نجده واضحًا في الثلث الأول من الديوان على سبيل المثال بما أنه بدأ بالوطني والسياسي. حيث
الشرارة والوهج الذي يبحث عن الأفضل والأجمل ، ولو حاولنا تحديد مهمة النقد الأدبي، سنجد أن النقد شأنه كشأن الشعر، ليس له مفهوم واحد ولا مهمة واحدة، بل مر بمراحل، النقد يطرح مفاهيم متعددة، لأن جوهر النقد جوهر فلسفي، وجوهر التجربة الشعرية والأدبية جوهر فلسفي أيضًا، كلما ارتقى الشاعر أو الأديب في الذروة من أدبه كانت له فلسفة خاصة، فلسفة خاصة في نظره إلى الواقع، فلسفة خاصة في الكتابة، فلسفة خاصة في المعالجة، فلسفة خاصة في التواصل مع المتلقي، ومن هنا تتفاوت المواهب وتتفاوت المعالجات، فمن ضمن الآراء التي قد تتطابق مع رؤية شاعرنا من الآراء النقدية فكرة أن الأدب هو نوع من نقد الواقع، أو نوع من نقد المجتمع، هذه الفكرة كانت مطروحة في فترة من الفترات، وبالطبع هي لا تشمل كل صفات الأدب، ولا كل فنون الأدب، ولا كل الحالات، لكن تظل محورًا أساسيًا في الإبداع الأدبي، ولا سيما في هذا الديوان، كان تقريبًا ماتيو أرنولد ركز على فكرة أن الأدب هو نوع من أنواع نقد المجتمع من أجل البحث عن الأرقى والأفضل.
ولذا اقترن بهذه السمة سمة أخرى وهي السخرية اللاذعة، وهي سخرية تنطوي على مرارة وألم وتقليب الرؤى في الواقع من كل النواحي. وهذه سمات الوطني الطموح والشاعر المتطلع والإنساني الباحث عن التحقق الإنساني الأمثل من خلال الوطن، فالفكرة لم تكن نقدًا من أجل النقد، ولكنه النقد الباحث عن البديل، والصورة الأخرى من الواقع، والسخرية كانت لاذعة بمقدار مرارة الواقع وبمقدار البحث عن الأفضل.
ولذا علاقته بالواقع علاقة متوترة لا تكف عن التأمل والبحث عن سبيل للخلاص من كل شيء. ومن ثم هو ليس نقدًا من أجل النقد، ولكن من أجل التطلع لمرحلة ما بعد النقد، كما أشرنا، فخلف النقد تظهر صورة الوطن البديل.
ولذا هو مبحر في زوايا المجتمع وقضاياه في القصيدة الواحدة، وكأنه ينظر نظرة جامعة، وقد قرب هذا روحه الشعرية من الروح الملحمية.
ويمكن أن نرى شيئًا من هذا في قصيدته “اتمخطري يا خيل”، وفيها يقول:

” كتبت عام 1990 أثناء حرب الخليج “

أتمخطري ياخيل
جانا الماجوس
على أرضنا أتمخطر يا خيل
جانا المجوس على أرضنا والدنيا ليل
جانا المجوس على أرضنا
وكنا ليهم ميمنة وكنا ليهم ميسرة
وكنا الدليل
جاؤا ورانا بدبابات وطيارات
والبارجة قدمها فيل
مهمناش
لأن ربك قد أمر حصا جهنم ينطلق
من غير مدافع تدفعه
أو تكنولوجيا تفرقعه
“بِحجَارةِ مِن سِجيل”
كانت الطيور مأمورة تلقى على العدو
حصا الجحيم
بطريقة الشيطان رجيم
فرمتها فوق راسنا وطارت
بينما قال الجميع
نيران صديقة دمرت غير الهدف
وإحنا البديل
مايعرفوش إن الطيور
مأمورة تضرب ع العدو
مإحنا العدو ياعين يا ليل

وفي هذا النص يتضح ما قلناه من نقد الواقع العربي والتمزق والتشرذم، وتعاون بعضنا ضد بعض، والخضوع للعدو، عبر وجهة نظر الشاعر التي لا نتدخل فيها، بينما ننظر للنص كنسيج فني يقدم رؤيته، وطريقة عرض الشاعر هنا تأتي ضمن سخرية شديدة، حتى أنه يوظف الأدوات الفنية كلها من أجل أن تصب في نهر السخرية الذي يصب بدوره في مصب النقد الاجتماعي السياسي اللاذع، فهو يوظف المعجم الديني والخوارق الدينية التي تحدث من أجل العدو كحادثة الفيل، ثم الرؤية العصرية والمعجم العصري )نيران صديقة( وتضفير معجم الحرب القديم )ميمنة وميسرة( بالمعجم الحديث )دبابات، طيارات، بارجة( ويخلط كل ذلك بالسخرية اللاذعة، فكل ذلك يجب أن يتوجه إلى العدو، وفي ضوء خطأ النيران الصديقة، نكون نحن العدو، وما من صداقة. وهكذا يستخدم الشاعر كل ذلك من أجل نقل رؤيته، وخلخلة البنية التقليدية للعرض الشعري، ومن شأن هذا أن يحدث تقليبًا في تربة المشاعر، ويهز التلقي، ويجعل القارئ يعيد ترتيب أطراف القضية، ويستخرج البنية المضمرة للرؤية بنفسه، ومن ثم يضع يده على العيب ويشارك في حله، كأن التقنية هنا تجعل المتلقي فاعلًا، ولا تكتفي بتفريغ الشحنة فحسب، وهكذا يحاول الشاعر رتق الهوة بين الفن والواقع.
وحين يستخدم الشاعر نبرة الفخر، يمزجها بنبرة سخرية ولكن ضد العدو هذه المرة، وهذا واضح كما في قصيدة بدر 96 وهي قصيدة خاصة ومتفجرة بالوجدان الموار ضد الكيان الإسرائيلي، تتحدث عن مناورة بدر 96 واعتقاد اليهود أن مصر تستعد للحرب، كما صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي حينئذ نتنياهو، والقصيدة كلها تمجيد للشعور الوطني المصري والسخرية اللاذعة من نتنياهو، حتى أنه اصطنع لها لازمة لغوية إيقاعية يختم بها كل مقطع، والصوت يدوي بها كأنها طلقة رصاص في المعركة، حيث حول النص إلى ساحة حرب، وكأن الإيقاع هنا هو مدفع رشاش ضد العدو.

بدر 96
بيضحك ليه على المبكى
وطول عمره بدون أفعال بيتحكى
برغم انه نجح كالكود
ولكن ف العمل ساقط
بميت كحكة
ولما نقوله من ذاكر أكيد ينجح
بيشكينا لمولاهو
نِيتانياهو …. نَيتا نياهو
********************
وخايف من هجوم باليل
وخايف من طلوع البدر
ولما الصقر بيرفرف
يدب الرعب ف رُباهو
نِيتانياهو …. نَيتا نياهو
*********************
نصيحة لك لوجه الله
متبقاش كما الحفار
بيحفر من نفق لتابوت
ومن يحفر لأخوه حفرة
أكيد منها يقوم ملطوط
ويلقى خير جند الله
تقوم جيباه ودفناهو
نِيتانياهو …. نَيتا نياهو
*********************
ولما جند أكتوبر
تخطو فوق موانعكم وهرسوها
وصدقتم بأن الخط أكذوبة
وبارليفكم تبناهو
نيتانياهو …. نيتا نياهو
********************

وهي واحدة من أبدع نصوصه، لأنها بنيت بشكل بديع، وارتكنت على تقنية تشبه النشيد الوطني، وربما “الزفة البلدي” لمن نريد أن نسخر منه ونتشفى منه في التراث الشعبي.
فالشاعر هنا يضفر نبرة الفخر بالسخرية، ولعكس هذا التناقض كان يختم المقطع بما يشبه الجملة الفصيحة أو الكلمة الفصيحة قبل أن ينتقل إلى اللازمة اللغوية الإيقاعية، وكأنه يصنع نوعًا من الخلخلة والحرب النفسية
ضد العدو، أو يصنع لغة مبهمة، أو يتمثل لغة الجد، ثم يهوي إلى قاع الهزل، كمن يتلاعب بأعصاب من أمامه، وكل هذا تنفيس عن توتر شديد بين طرفين، وميراث من الحرب النفسية والعسكرية، كأن الشاعر هنا ينتصر في كل مرة ، وبكل السبل، ولا يترك العدو وإلا قد مرغ بخده التراب، ومزق ثيابه، تعبيرًا عن جبروت الشخصية المصرية حينما تستفز وتستخرج أفضل ما عندها في وقت الأزمات.
ولذا كانت القصيدة حية رنانة يمكن أن نسمعها عشرات المرات ولا نمل، لأن الشاعر قد ضخ فيها كمية مشاعر كافية لإنعاشنا في كل تلق.
والملاحظ أن السخرية في شعره تتمادى وتتوسع ويصنع لها تقنيات مختلفة، ومن ذلك تقنية مراجعة الذات على سبيل السخرية، يقول مثلا في القصيدة نفسها:
نفق مقفول بتفتحه ليه ؟
عمل فبها أبو الفتحات؟
خطأ لغوي ..أبوالفتوحات
وذلك عبر المقطع الآتي:
نفق مقفول بتفتحه ليه
عمل فيها أبو الفتحات
خطأ لغوى .. أبو الفتوحات
ماكان أولى بيريز يفتح
لكنه شاف على طابا
علمك مرفوع بجندارى
فحط على النفق طوبة وأخفاهو
نيتانياهو …. نيتا نياهو

والسخرية وحدها عنده تستحق التعقب وفق تصنيفها الداخلي في كل مرة، كما قدمنا في هذا النموذج )تقنية مراجعة الذات( ويمكن قراءة ديوانه قراءة رأسية لتتبع هذه الظاهرة بألوانها الداخيلة.
تضافر كل هذه التقنيات عبر تدرج مقطعي، وخلخلة البنية عبر جملة أو كلمة فصيحة يعقبها اللازمة )نيتانياهو( مع تكرارها، ونبرة السخرية، واستدعاء روح البطولة ورموزها التاريخية، وتكرار الأسئلة بما يشبه الصفعات، إلخ كل ذلك جعل قصيدته مدوية كالقنبلة، خاصة حين تنطق بما يشبه الإيقاع الحربي في ختام كل مقطع، وقد تعالت الأنفاس، وانتظمت نبرة السخرية، ودبت الأقدام على الأرض، وانتظمت حركة الجنود في صفوف طويلة، كأنها تسحق العدو الغادر. وهنا يكون للشعر دور اجتماعي خطير، لا يقل قيمة عن غيره من الأدوار، حيث يصبح للكلمة قيمة الفعل، أو تقربنا منه، تصبح للكلمة قيمة القداسة، وربما هذه منزلة أعلى من الفعل، حيث تكون الأديان أعلى من الفعل والقول بقداستها في القلب، وهذه أعلى مكانة يمكن أن يصل إليها الشعر من وجهة نظري حين يبلغ درجة قداسة الدين في أعلى تجلياته.
وهذا يمكن أن يحدث في مجالات وطنية ودينية وروحية، وقد رأينا كيف أن الصوفية كان لهم موقف من اللغة، في مقابل مواجيدهم العميقة وبصيرتهم الحادة وحدسهم البعيد وحبهم الإلهي الجارف، فكانت اللغة الشعرية على يديهم لغة تدويمية تتحمل بما لا تطيقه اللغة العادية، وحاولت أن ترش شيئًا من القداسة على لغتهم الناتجة عن قداسة الحب الإلهي، وقد نجحت في ذلك، حتى أنا لنشعر بالخدر حين نقرؤها ونرتلها حتى دون فهم، إنها لتنفذ إلى الجلد، ومنه إلى اللحم فالقلب فالروح، لأنها اتصلت بالله عز وجل، فأصابنا منها ما أصاب أصحابها من الوجد والهيام. وهو أمر يمكن أن نفرد له وقفة خاصة في منهجنا النقدي بشيء من التوسع في بسط الفكرة والتمثيل عليها.

هناك ظواهر أخرى في ذلك الديوان، ولكنا نرى أن نرجئها لمقال قادم، حرصًا على المساحة المطلوبة.

د. السيد العيسوى
مديرمتحجف أحمد شوق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى