لينشغل ”أهل الربيع العربي”بأمورهم وأحوالهم،فتونس..خارج المقارنة و المنافسة

محمد المحسن | تونس

قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت أنّ الديمقراطية بتونس انتصرت،وأنّ الأجواء بهذا البلد الإستثنائي غدت تعبق برائحة الوليد القادم: الحرية،لا سيما في ظل الرياح العاتية التي عصفت بما كان يسمى ب”الربيع العربي”ببعض الأقطار العربية الأخرى..وما علينا والحال هذه، إلا أن نستنفر قوانا ونتمترس بجسارة خلف خط الدفاع الأول عن هذه الأيقونة(تونس التحرير) انتصارا مطلقا للديموقراطية ببلادنا وسعيا حثيثا لإستكمال مسيرة الثورة بثبات حتى تنتقل تونس من النظام الجمهوري المزيّف إلى النظام الجمهوري الديمقراطي.
قلت هذا،وأنا – على يقين- بأنّ أهم انجاز حققناه كتونسيين بعد الإنتخابات التشريعية/الرئاسية هو أنّ تونس بقيت شامخة،كما قال زعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي”الشجرة الوحيدة الشامخة في غابة” الربيع العربي”التي احترقت أشجارها في ليبيا ومصر واليمن وصولا إلى العراق”.
الإحتراق الذي تحدّث عنه الغنوشي حدث بفعل التصدعات الداخلية داخل البيت العربي الذي هبّت عليه -بالأمس-نسائم الثورة،لكنه لم يصمد في وجه قوى الردة،وغدا بالتالي مسرحا للإحتراب حيث السلاح اللغة الوحيدة السائدة بين الفرقاء السياسيين الذين غلّبوا النقل عن العقل فخسروا الإثنين معا:الحرية والديمقراطية..
والنتيجة الحتمية لتلك التداعيات الدراماتيكية هي أنّ تلك الثورات غدت رهينة لدى قوى خارجية،لا هم لها سوى اجهاض جنين الحرية داخل أحشاء الثورة،ومن ثم خنق كل نفس ديمقراطي أو مشروع وطني تحرري من شأنه أن يخلّص الأمة العربية من عقال الترجرج والتخلّف..
وإذن؟
ما يبعث على القلق إذا،هي حالات التردي بجميع أشكالها التي تسيطر على البلاد في ظل تفاقم الأزمات الإقتصادية والإجتماعية واشتداد المخاطر الإرهابية واندلاع العديد من بؤر التوتر والإحتقان.هذا في الوقت الذي يلهث فيه عدد كبير من السياسيين ممن ركبوا سروج الجشع خلف الأضواء والنفوذ دون أن يهتموا بتداعيات التدافع الإنتهازي على المسار الديمقراطي.
أقول هذا،يقينا مني بأنّ الأوضاع على المستويات الإقتصادية والإجتماعية بالخصوص،مثيرة للقلق الشديد،بالرغم من التحسّن الملحوظ على الصعيد الأمني-وهذا الرأي يخصني-بفضل ما تبديه قوات الجيش والأمن والحرس من مجهودات مكثفة لتعقب الإرهابيين وإحباط مخططاتهم والإطاحة بخلاياهم..وضربهم بالتالي في مقتل على غرار ما حصل في ملحمة بن قردان البطولية..(07 مارس 2016)
كان من المفروض أن يؤثّر التحسّن الأمني ايجابيا على الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية.لكن ذلك لم يحصل إطلاقا.فالوضعية العامة جدّ حرجة.وأصبحت خاضعة أكثر فأكثر لكل أنواع التوظيف السياسي.إذ تحاول الأحزاب والحركات والتيارات والمنظمات استغلال المستجدات الحاصلة لخدمة أجنداتها الضيقة غير عابئة بما يتطلبه الأمن القومي للبلاد من إلتزام بقواعد التضامن الوطني لمجابهة مثل هذه المشاكل.
ما أريد أن أقول؟
 أردت القول أنّ التونسيين بدأوا يشعرون بالخطر سيما بعد أن كشفت المصادر الرسمية عن أن نسبة النمو قد انخفضت بشكل دراماتيكي،ويعود ذلك إلى موجة الإضرابات من جهة،وإلى انهيار قيمة العمل بشكل غير مسبوق،من جهة ثانية.وهذا ما دفع بالإخصائيين في المجالات الإقتصادية إلى إطلاق صيحة فزع تؤكّد أن الأوضاع بدأت تقترب من حافة الهاوية،حيث أشارت العديد من التقارير الصادرة عن هيئات مختصة إلى تراجع حاد في أداء مؤسسات الإنتاج والإدارات والمنشآت العمومية،مما حدا بكبريات المؤسسات المالية الدولية وفي مقدمتها البنك الدولي،إلى الرفع من سقف ضغوطها على تونس من أجل دفعها نحو إنجاز “الإصلاحات”المطلوبة في أسرع وقت ممكن،لأنه في حال عدم إنجاز ذلك،فإن المساعدات المالية قد تتوقف.
ما العمل؟..
إن تونس-اليوم-وأكثر من أي وقت مضى،في حاجة إلى تكاتف كافة مكونات المجتمع المدني وكل القوى السياسية لتثبيت أركان الجمهورية الثانية،ومن ثم انجاز مشروع مجتمعي طموح ينآى بالبلاد والعباد عن مستنقعات الفتن،الإثارة المسمومة والإنفلات الذي يتناقض مع قيم العدالة والحرية،وهذا يستدعي منا جميعا هبّة وعي تكون سدا منيعا أمام كافة المخاطر التي تهدّدنا وتسعى إلى تحويلنا إلى نماذج مرعبة ومخيفة لما جرى و يجري في العراق وسوريا وليبيا.
أقول تونس اليوم دولة وسلطة ومؤسسات،أمام امتحان جديد على درب الديمقراطية،ومع على الفاعلين في المشهد السياسي التونسي إلا القطع مع-النهم المصلحي والإنتفاعي-المسيطر عليهم ومن ثم تخطي الطور الانتقالي الجاري بنجاح،ووضع المساطر المناسبة لبنية مجتمعهم السياسية والحزبية،من دون إغفال تطلعات مجتمعهم والشروط العامة التي تؤطرها،وذلك تطبيقا لشروط والتزامات وقيم الممارسة الديموقراطية السليمة والسلوك الحضاري القويم.
ولتحقيق ذلك،يكفي أن نتذكّر ما ترتّب عن الحوار بين الفرقاء السياسيين من خيارات سياسية كبرى،تمثلت بالأساس في الإسراع بإكمال إعداد دستور جديد،على الرغم من أن الأمر لم يكن سهلاً،ولا متيسراً.كما ترتب عنه قبول أجندة تقضي بإنجاز الانتخابات التشريعية،ثم الرئاسية،في آجال محددة،وإطلاق الجمهورية الثانية في تونس بصورة لا رجعة فيها الأمر الذي ساعد على تخطي عتبة الانسداد الذي حصل.
على سبيل الخاتمة:
قد لا أجانب الصواب إذا قلت ثانية،أن الجانب النظري من إمتحان الديمقراطية قد أنجز-بإرادة سياسية فذّة-عبر  كتابة دستور توافقي ضامن للحقوق والحريات في بعدها الشمولي،ونحن اليوم-كما أسلفت-على أبواب مرحلة جديدة أشد عسرا وأكثر صعوبة وهي مرحلة تنزيل النظري إلى أرض الواقع وتطبيقه بشكل موضوعي وخلاّق بمنآى عن الأيادي المرتعشة، الألسن المتلعثمة..والقلوب المرتجفة..
ومن هنا،فإنّ تونس اليوم-وأكثر من أي وقت مضى-وعلى الرغم مما تخلل مسيرتها من شوائب،جديرة بالدراسة المعمقة والمستفيضة،لعلها تساهم في العثور على مكامن التصحيح والتصويب اللازمين والمُلِحين،ولينشغل،في الأخير،”أهل الربيع العربي”بأمورهم وأحوالهم،ويجتهدوا في ترتيب-بيوتهم-من الداخل،ويتركوا بالتالي تونس تكمل تجربتها،لأنها-بكل فخر واعتزاز-خارج المقارنة و المنافسة..
..وأرجو أن تصل رسالتي-العفوية-إلى عنوانها الصحيح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى