مبادرة الأسرى وتحقيق العدالة لنزار بنات
نهاد أبو غوش | فلسطين
يندفع الوضع الداخلي الفلسطيني، بل يتدهور، نحو أزمة شاملة، وسط أجواء مشحونة من الاتهامات وانعدام الثقة، وفشل المنظومة السياسية والإدارية في التعامل مع المشكلات وإيجاد الحلول الناجعة لها في الوقت المناسب، منعا لتفاقمها واستفحالها لتنشأ عنها مشكلات جديدة..، وكل ذلك يجري ويتواصل وسط هجمة غير مسبوقة على القدس وعموم الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومواصلة حكومة بينيت- لابيد تنفيذ المخططات الاستيطانية التي بدأتها حكومة نتنياهو، أما ما تحقق من إنجازات سياسية وجماهيرية خلال مواجهات شهر أيار، واستعادة القضية الفلسطينية مكانتها، واكتساب مزيد من الأنصار والداعمين على امتداد العالم، ناهيك عن المصالحة الوطنية والروح المعنوية للفلسطينيين وشعورهم بالوحدة بعد 73 من التجزئة والتفتيت، فإن كل ذلك أصبح في مهبّ الريح!
ليس من المستبعد، بل من المؤكد أن أصابع خارجية معادية تعبث في شؤوننا الداخلية، فهذه على الأقل، استراتيجية معروفة ومعلنة لدولة الاحتلال التي أعلن رئيس وزرائها السابق بنيامين نتنياهو أن الانقسام الفلسطيني مصلحة استراتيجية إسرائيلية، لكن هذا العبث لا يمكن له أن يمرّ إلا من خلال الشقوق والصدوع التي تتيحها جبهتنا الداخلية، ومن خلال أزمة الثقة التي ما انفكّت تتسع بين المنظومة السياسية بكل مكوناتها (منظمة التحرير وسلطة وحكومة وفصائل وأجهزة ومؤسسات متخصصة) وجمهور المواطنين.
ولا شك أن حادثة / جريمة تصفية الناشط المعارض نزار بنات فجّرت قدرا كبيرا من الغضب والاحتقان وردود الفعل الغاضبة والمشروعة، فالجريمة لخّصت مجموعة من الظواهر والمشكلات الجوهرية التي أفاضت في شرحها وتبيانها مؤسسات حقوق الإنسان، ومن بينها جريمة التعذيب، والاغتيال السياسي، والاعتقال التعسفي، والموقف من الراي الآخر المعارض، وانعدام الشفافية، وتداخل صلاحيات الأجهزة، كما جاءت في توقيت مأزوم وبالغ الحساسية بعد إلغاء الانتخابات والحرب الأخيرة وفشل لقاءات الحوار الوطني، وظهّرت على نحو جليّ مجموعة من المشكلات القائمة أبرزها ضعف القوى والتنظيمات السياسية، وبخاصة الفصائل التي كان يمكن لها أن تشكل “تيارا ثالثا” في المعادلة السياسية الفلسطينية، وعجزها عن التأثير في حركة الشارع، ومشكلة انعدام الحدود والفواصل بين حركة فتح، التنظيم الذي يقود السلطة، والأجهزة الأمنية، وبالتالي تماهي الحزبي/ الحركي مع المؤسسي على نحو بالغ الضرر بالتنظيم الذي يتبنى علانية مبدأ قيام دولة القانون والمؤسسات، وبالأجهزة عينها حين تفقد مهنيتها وتخصصها والصلاحيات المفوضة لها بموجب القانون، وتتحول إلى ذراع للتنظيم.
الأنكى من جريمة تصفية بنات، والتي كان يمكن حصر مسؤوليتها في الأفراد الذي نفذوها بالفعل أو وجّهوها وخططوا لها، من دون تحميلها للنظام والقيادة والتنظيم والمؤسسة الأمنية برمتها، هي طريقة التعامل بعد الجريمة والتي بدأت بمحاولة إنكار المشكلة، ثم محاولة التهوين من شانها وتبريرها، وبعد ذلك قمع الاحتجاجات بقسوة شديدة، وتجييش أنصار الحركة واستنفارهم وزجهم في مواجهة قطاعات وشرائح من الشعب.
صحيح أن الاحتجاجات شابتها مظاهر من الغلوّ والتطرف اللفظي مثل بعض الهتافات والشعارات التي طعنت في كل من ينتمي للسلطة والأجهزة، أو طالبت برحيل السلطة والقيادة من دون أن تقدم أي بديل، لكن رد الفعل على هذه الاحتجاجات والشعارات كان أكثر خطورة وأكثر ضررا للنظام منها، وذهب القائمون على الحملة الإعلامية والتعبوية للسلطة إلى ترويج وجود مؤامرة كونية وهمية، تشترك بها أطراف دولية وإقليمية ودولية، وهي صورة مبالغ فيها، ولا يمكن لعاقل أن يصدقها، ولعلها ناشئة عن عدم قدرة هذه الأوساط على تصوّر وجود معارضة، وحتى لو تصوّرت وجودها فهي تنكر عليها حقها في التظاهر السلمي وحقها في التعبير عن رأيها بحرية.
لا يمكن للوضع الداخلي الفلسطيني أن يكون على هذه الدرجة من الضعف والهشاشة بحيث يعجز عن استيعاب معارض لا يملك سوى لسانه ورأيه، أو تحمّل مجموعة من الشباب والصبايا المحتجين حتى لو تلفظوا بكلمات قاسية، فلو كان في آرائهم وهتافاتهم ما يخالف القانون أو يمس بحقوق الغير لأمكن مساءلتهم قضائيا ومحاكمتهم، دونما حاجة لسحلهم وضربهم بطريقة اقل ما يقال عنها أنها جارحة ومؤذية لمشاعرنا الإنسانية والوطنية.
وسط هذه الفوضى العارمة التي يمكن أن تقودنا إلى ما هو اسوأ، غابت الإدارة الرشيدة، كما غاب دور القوى السياسية الديمقراطية التي كان يمكن لها أن تلعب دورا شديد الأهمية في تهدئة الأوضاع وتوجيهها نحو الغايات العملية التي يريدها معظم المحتجين وليس نحو وجهة فوضوية وعدمية لا تخدم أحدا ولكنها تؤجج المشاعر والأزمة، هذا الدور المفقود كان ينبغي أن يتجسد من خلال عاملين مهمّين هما أن وجود هذه القوى في الميدان مع حضور مباشر وشخصي لقادتها ورموزها الوطنية المعروفة يمكن له أن يساهم في حماية المحتجين وأن يحدّ من العنف والقمع، كما أن وجودها الكثيف كفيل بضبط الشعارات وعقلنتها وتوجيه الجهود نحو أهداف واقعية ومطالب ملموسة يمكن تحقيقها وإنجازها.
يستحق حراك الأسرى المحررين بمبادراتهم الفردية كل تقدير وإشادة لأنه ذهب في هذا الاتجاه، وسعى لبلورة مطالب تحقق العدالة لدم نزار بنات وعائلته، وتستجيب لمطالب المحتجين، وتنسجم مع النظام والقانون، بل هي تنتصر للنظام والقانون بإنقاذهما من تعسف بعض الأفراد أو مراكز القوى التي تعبأ بزج المؤسسات في مواجهة الشعب، ولا يهمها هدم المعبد على من فيه إذا تعرضت مصالحها للخطر.
حراك الأسرى يستحق كل الدعم من قبل الحريصين على دولة القانون والمؤسسات ومن قبل المطالبين بالحريات والحقوق والوحدة الوطنية. وإذا كان كل ما جرى فظيعا ومؤسفا إلى درجة نحب أن نتجاوزها بسرعة، فلعله يوفر فرصة لاتخاذ إجراءات جدية تمنع تكرار ما جرى، وتمنع الاجرار إلى هذه الدوامة البغيضة من العنف الداخلي، بهذه الطريقة فقط نحقق العدالة لدم نزار بنات ولكل المناضلين من أجل الحرية.