نيابة عن المطر … مدخل لقراءة نصيّة

هدى عبد الحر | العراق – النجف الأشرف

     لفهم أي نص قولي تنتظم فيه اللغة في أنساق وجمل لتنتج دلالاتها المختلفة والمتنوعة  والمتشعبة لابدّ من معرفة حدود العلائق التي تنتجها هذه الجمل والأنساق وتتبعها بدقّة وحينما يكون النص القولي (شعرا) تزداد المهمة عسّرا وصعوبة لأن الشعر لغة منزاحة تمتدّ أواصرها في شتى المجالات فهي تشتبك مع الحياة بسعتها وشموليتها، ولابد والحال هذه من فهم دقيق لكل جملة تظهر في النص الشعري لأنها ستدل على معنى منضوٍ تحت أفياء اللغة ودلالاتها.

   واللغة تأثيرها مهم وفاعل وأصيل في خلق كينونة النص الأدبي عامة والشعري بصورة خاصة فهي حجر الأساس الذي يقوم عليه هيكل النص المعقد والمتشابك، ومن الطبيعي أن ينماز شاعر عن آخر في استعمال اللغة فلغة القصيدة هي انعكاس لفكرة الشاعر ونفسيته وتجربته في الحياة وبذلك يكون الاستعمال الخاص للغة هو (الأسلوب) الذي يتميز به شاعر عن آخر.

    ومن القصائد التي أثارت شهيتي النقدية قصيدة (نيابة عن المطر) للشاعر جاسم محمد جاسم وهي القصيدة الأولى في مجموعة الشعرية التي استمدت اسمها من هذا النص المميز، فجاسم شاعر يعتمد على اللغة وإمكانياتها كثيرا في خلق عالمه الشعري وقد حاول تجسيد أفكاره ومشاعره الجياشة فاختار الألفاظ التي تلتصق بتجربته أو الريبة منها وكما يقول أهل النقد:  (الكلمات ليست مقاطع وأصوات فقط ولا معان مجردة بل هي معادلة لما في أعماق النفس البشرية من إحساس وهي لا تعبّر ولا تصور أو تحاكي بقدر ماهي تتحدث وتعطي وتخلق). وفي هذه القصيدة نجد تجسيدا لذلك ففي مفاصلها ودقائقها ما هو تعبير دقيق وحقيقي عن كل مكنونات النفس وتجلياتها وتطلعها وهموها.

 

الموسيقى

   لعل الجانب الصوتي  الذي لجأ إليه الشاعر في مواضع كثيرة في القصيدة وبنسب متباينة قد تكون عالية أحيانا ومنخفضة  أحيانا أخرى, هو من الجوانب الرئيسة التي أظهرت التصاقه الشديد بواحد من أهم  تجليات اللغة وهو (الموسيقى) ففي مفردات كثيرة مثل: (الهاربون والغائبون و المنشدون و الطيبون ، …… ) حيث يتكرر الإيقاع بوتيرة تجعل من المتلقي رهن (نغمة) واحدة فهؤلاء الذين وردوا بصيغة الجمع التي جاءت دلالتها مؤكدة على الاشتراك في الهم الواحد وجاء الإيقاع  ليجمعهم أيضا وكأنهم  نغمة واحدة:

الهاربون من المعنى دلا لتُهُ

والغائبونَ عن الأسماء طلّتُهُ

والمنشدون َ مراثي الطيبِ ، يعرفُهم

والطيّبون أمام القبح زلّتُهُ

 

    وقد جاءت القصيدة على بحر البسيط الذي يقول عنه حازم القرطاجني (608- 684 ): (لهذا البحر بساطة وطلاوة) لما له من حركة نغمية عالية ونلحظ هنالك انسجاماً كبيراً بين البحر الشعري للقصيدة ولغتها والفاظها وتراكيبها وصورها ورموزها البلاغية وصدق موضوعها النابع من إحساس الشاعر.

    ويرى الدكتور علي عباس علوان (1938- 2013) : (أن العلاقة بين اللغة التي يستخدمها الشاعر والوزن تبدو علاقة ملتحمة في النص الجيد)  فقد ساهم بحر القصيدة بتفعيلاته  (مستفعلن  فاعلن مستفعلن فعلن)  في التعبير الصادق عن طابع الحزن الذي تخلل القصيدة :

 ماذا لديهـا  وقد جاعـت نوارسُهُ

من كـادحٍ عـمره الممـتد عطلتُـه؟

 

القافية

   وهي عنصر رئيس وفعّال ومن العناصر التي يقوم عليها بناء القصيدة إذ تشترك في خلق الدلالة وترسيخها إذ إنها في البيت الشعري لا يمكن لها أن تكتفي بدور الضابط الموسيقي المجرد فقط لأنها تفقد في حينها جزءا مهما من حيويتها وحضورها وقوة أدائها فلا بد لها من أن تشترك اشتراكاً فعالاً في التشكيل الدلالي وجرّ المعنى للمكان الذي يريده الشاعر أو الذي يريده المتلقي بوصفه شاعرا آخر يصنع معناه الخاص. 

  فالقافية ليست مجرد جرس صوتي يتكرر ليهب  القصيدة  إيقاعا مكرّرا  بل تتجاوز ذلك لتكون ذات وظيفة جمالية تجعل القصيدة تتشكّل داخل أفق القارئ إذ تؤثر فيه وتضبط إيقاعه مع إيقاع القصيدة ومن ثمّ سيكون داخل حالة من التناغم  لما تقوله القصيدة؛ فقافية (الهاء) عبّرت  تماما عن ألمه  وجاءت وكأنها  الحسرة التي يطلقها المتوجع:

وكيف يمدح عيـدَ الجائعين به

وقد تربّت ببيتِ الجـرحِ  جـملتُهُ ؟

 

معجم الشاعر

   لكل شاعر معجمه الخاص وغديره السريّ الذي يرده لينهل منه وبما أن: (المعجم هو لحمة أي نص كان يحتل مكانا مركزيا في أي خطاب) يعتمد الشاعر على مفردات معجمية لها خاصية العلاقة  بوطنه وجغرافيته  ومنها ما تتعلق بتراثه ومرجعياته الروحية والتراثية فيرجع إلى القرآن الكريم فيذكر قصة النبي سليمان مع النملة كذلك تظهر مفردات الطبيعة مثل: (الفرات ودجلة والقمح والدغل والنخلة والبستان ….)  لذا جاءت القصيدة منتمية إلى بيئتها ونابضة بكل ما في هذه البيئة اللغوية من خصب وغنى والمتأمل في لغة القصيدة سيجدها بعيدة عن الركاكة والهفوات التي تعتري عادة الكثير من النتاج الشعري.

فراتُه أفعوانُ الرملِ، يخذلُه

– يدري – ، ويدري شطوطُ الوهم دجلتُهُ  

ماذا سيجمع مِن بستان غربتِه

مسافرٌ صدره المثقوب سلّتُه؟

 

 

لما رأى الدغلَ غطى صوتَه ، وغدتْ

تمتارُ مُرّ رحيق الشوكِ نحلتُه

طفلٌ، وَ عُود ثقاب القمح في يده

والريح جمهوره ، والنار حفلتُة

في رأسه خطّةٌ للموتِ طارئةٌ

لم يكتشفها سليمانٌ ونملتُهُ

 لقد حقّقت القصيدة ما افترضته في بداية المقال فقد نجح الشاعر في أن يستغل طاقات اللغة في خلق نصّ شعري متميز حاول أن يعبر عن همٍّ إنساني شفيف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى