قراءة في رواية (اليتيمة) للروائيّ المقدسيّ جميل السّلحوت
بقلم: محمد موسى عويسات
“العزوبيّة ولا الزيجة الرّديّة” مثل شعبيّ متداول في بيئتنا المقدسيّة والفلسطينيّة وأظنّ أنّه متداول في بلاد عربيّة أخرى، فيه حكمة كبيرة، وهو صادر عن تجربة ومجرّب، يحمل دلالات كثيرة أهمّها أنّ من الزّواج ما يخالف المقصود السّامي للزّواج فيكون كارثة على الزّوجين أو أحدهما، فلا تتحقّق الغاية منه وهو السّكن والطّمأنينة، وبناء اللّبنة الأولى في المجتمع وهي الأسرة القويمة، وفيه أيضا أنّ هناك من كلا الطّرفين من لا يحسن الاختيار، ولا يتحقّق من أهليّة شريك الحياة والصّاحب فيها، ويتعجّل في الزّواج لمجرّد الزّواج، ومن طرف خفيّ يعكس المثل عقليّة أو خلق غير سويّ وهو الغشّ الذي يمارسه أحد الأطراف من المتقدّمين للزّواج أو أوليائهم في إخفاء عيوب أبنائهم أو عدم صلاحهم للزّواج، ومنه أيضا اغترار أحد الأطراف بمظهر المتقدّم للزواج وشكله وماله، وإغفال مخبره وعقله وخلقه، فيكون الشّاب أو الفتاة ضحيّة في هذه الزّيجة، التي تنتهي إلى الإخفاق وضياع الأولاد إذا ما كان الإنجاب، كلّ هذه وغيرها هي محور الرّواية (اليتيمة) للأديب الرّوائي المقدسيّ جميل السلحوت التي صدرت هذا العام في مطلع شهر تموز 2021عن مكتبة كل شيء في حيفا.
هذه الرّواية التي تعدّ الثالثة بعد روايتيْ (ولادة من الخاصرة) و (المطلّقة) اللّتين تناولتا المرأة في دائرة الزّواج والطّلاق، فهما في موضوع واحد، غير أنّ الشّخصيات قد اختلفت في هذه الثالثة أي (اليتيمة)، وقد امتازت الرّوايات الثلاثة بواقعيّة شديدة، حتى كأنّ القارئ يقول هذه قصّة حصلت في القريّة الفلانيّة، أو في الحيّ الفلانيّ، أو في الأسرة الفلانيّة، وهكذا كانت تلك الرّوايات نقلا لصور حيّة للعلاقات الزّوجيّة، ربّما يكون الكاتب استوحاها من مشاهداته ومن تجاربه الشّخصيّة في حلّ المشاكل المجتمعيّة والاجتماعيّة. والكاتب في هذه الرّواية وكما هو في سابقتيها ينقل عقليّة تسيطر على مجتمعنا كوّنتها عادات وتقاليد خاطئة بعيدة عن الدّين القويم وأحكامه السّمحة، وعمّا يقتضيه العقل السّليم والفطرة القويمة في العلاقة بين الرجل والمرأة قبل الزّواج وبعد الزّواج، وهذه العقليّة ليست هي ظلما يقع من الرّجل على المرأة، أي ليست عقليّة ذكوريّة، بقدر ما هي عقليّة مجتمعيّة يشترك فيها الرّجال والنّساء على حدّ سواء، فعبير الفتاة اليتيمة قد اشترك في مأساتها أطراف عديدة، من أخيها الذي عَنى لإرادة زوجته الجديدة التي هي ابنة خالة مهيب، واشتركت فيها أمّ عبير التي اغترّت بمنظر مهيب في صورة فوتوغرافيّة، فوافقت على زواج عبير منه دون التحقّق من شخصيّته، واشتركت في هذه الجريمة أمّ مهيب بل والده أيضا، اللّذان أخفيا حقيقة ابنهما المريض نفسيّا، ولا ننسى زوجة عزيز أخي عبير، وربّما يكون الجدّ أوعى تلك الأطراف، ولكنّه أبدى ضعفا وعجزا عن الاستدراك على هذه الزّيجة. ونرى الرّواية ومن خلال نسائها تبرز عقدة الزّواج، فهمّ الأمّهات الأول وقبل التّعليم سواء للأبناء أو البنات، هو زواجهم، واختيار القرين المناسب، وفي الزّوج المناسب أو الزّوجة المناسبة يطغى معيار الجمال والأناقة، وهنا تبرز قضية أسمّيها (التّطريق)، وهي تنبيه الفتى أو الفتاة للزّواج وإثارته في النّفس ودفعه له دفعا، وجعله أمرا حثيثا وأولى الأولوليّات حتى وإن لم يكونا مهيّئين له نفسيّا أو ماديّا، فعلى سبيل المثال اضطر عزيز بعد أن ألحّ عليه جدّه وأمّه لاختيار زوجة، أن يتوهّم أن زميلته في الجامعة تحبّه وأنّها توافق على الزواج منه رغم قصر اللقاء، وكانت الصّدمة أنّها مخطوبة لشخص آخر ومقبلا على الزواج،وكذلك التدخّل المباشر في اختيارهما شريك الحياة. وهكذا نكون أمام رواية تكشف المستور من عقليّاتنا الاجتماعيّة المشوّهة. هذا من جانب الفكرة أو القضيّة التي دارت عليها الرّواية. أمّا من الجانب الفنّيّ فهناك أمران ملحوظان: الأول هو المكان، فمدينة القدس وقرية سلوان التي تلاصق سورها من الجهة الجنوبيّة هما مكان الأحداث، فالرّواية مقدسيّة بامتياز وقد استحضر فيها الكاتب الاحتلال ومستوطنيه ومعاناة أهل هذا الحيّ منهم في جزئيّة ذات شأن هي تدخّلهم وتنغيصهم أفراح المقدسيّين، وكان حضور الكويت البلد العربيّ العريق قد أعطى الرّواية بعدا جميلا، فهو تلوين مكانيّ فنّي يحتاجه القارئ، كما تقتضيه الأحداث وإبراز ملامح الشّخصيات عبير ومهيب وأبو مهيب، كما أنّ فيه إشارة تقدير لأهل الكويت ومعاملتهم الجميلة لأهل فلسطين، فهم بحقّ قوم مضيافون، طيّبون كما في شخصيّة العنود وزوجها سالم.
الجانب الفنّيّ الأخر اللافت للانتباه هو توظيف الكاتب لعدد كبير من الأمثال الشّعبيّة السّائدة في مجتمعنا، المتعلّقة بالحياة الاجتماعيّة، معظمها متعلّق بالزّواج وحيثياته، فنحن أمام جمع للتّراث القوليّ وتوثيق له، وكذلك لأغاني النّساء في الأعراس، وهذه بعض الأمثال:
“الملافظ سعْد”، “مين بشهد للعروس؟ قال: امّها وخالتها وعشرة من حارتها”، “يا شايف الزّول يا خايب الرّجا”، “دَبْها أبو الحصيني وعشّرت”، “الفار لعب في عبّها”، ” الدّهن في العتاقي”. “ما بِقَع في القفص غير العصفور الحِدِق”، “المكتوب بنقرا من عنوانه”، ” المخبّا بندوق” و” الشّمس ما بتتغطّى بغربال”، ” النّساء وديعة الأجاويد.”، ” أجت الحزينة تتفرح ما لقت لحالها مطرح”، “المتعوس متعوس لو ضويت له ألف فانوس”، “ليس كلّ ما يلمع ذهبا”، ” الرّجال مَحاضر مش مناظر”، “غُلُبْ بستيره ولا غُلُب بفضيحه”، ” اللي بدري بدري، وللي ما بدري بقول على الكفّ عدس”، ” يا ماخذ القرد ع ماله، بروح المال وبظل القرد ع حاله”، ” شو أمور دينك يا جحا؟ فردّ عليهم مثل أهل بلدي”. “ما أغلى من الولد إلا ولد الولد”… إلخ.
وأخيرا تعدّ هذه الرّواية من الأدب الواقعيّ، وتحمل رسالة اجتماعيّة، ودعوة لتغيير العقليّة التي تتعلّق بفكرة الزّواج لمجرد الزّواج والتي تغضّ الطّرف عن أهليّة الزّوج من كلا الطّرفين.
12-تموز-يوليو-2021