عَلَّمَتْنِي آيةٌ

عبد الله جمعة | أديب وناقد – الإسكندرية

أَلَا فاعلمْ أيُّها المذعورُ موتًا ، أَنَّكَ قد اعتمدتَ العِلْمَ غايةً فما وَقَاكَ بل زادَكَ رُعبًا، فاعلمِ الآنَ أنَّ العِلْمَ وَسِيلَةٌ تَبْلُغُ بها الغايةَ، والغايةُ اللهُ؛ فَهَبْ أنَّكَ أردتَ ماءً في صحراءَ . فإذا أتَيتَ بأسبابِ الحَفرِ و أَعمَلْتَها حتىٰ بلغتَ الماء تركتَها و عَكَفتَ على الماءِ تعتاشُ، ذلك العلمُ هو الأسبابُ و ذلك الماءُ هو اللهُ؛ فإنَّكَ تحفرُ في ذلك العالمِ بالعِلْمِ لتبلغَ ما حَكَمَ اللهُ به عليك ؛ ألا و هو خشيتُه و الارتكان عليه و التدرُّعَ به ، فإن بلغتَ الله أوقفِ العِلْمَ ؛ فلن يكونَ السَّبَبُ غناءً عن المُسَبِّبِ و إن صَعَدتَ بعلمِكَ أبراجَ السَّماء .

فانْظُرْ واعتبر بأولئك الذين استغنوا بالسَّبَبِ عنِ المُسَبِّبِ و مكثوا في ديارهم تعزفُ لهم شرطتُهُم فيتراقصون في النَّوَافِذِ مُستَغنينَ عن خالقِ الدَّاءِ مُتَدَرِّعِينَ بالدَّواءِ أَ أغناهم ذلك شيئًا … وأولئكَ الجاهلون الذينَ يَصِمُونَا بالجَهْلِ لأننا تَدَرَّعنا بالمُسَبِّبِ بعدَ أن اجتزْنَا الأسبابَ نقولُ لهم : لقد وقفتُم عند الأسبابَ ثم عجزتُم أن تجتازوها و اغتررتُمْ بها و أمَّا نحنُ فقد سبقناكم إلى مُسَبِّبِ تلك الأسباب ، فمن مِنَّا الأنقصُ علمًا.

أَلَا فانُظرْ إلى قوله عَزَّ مَنْ قالَ:

وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)” [فاطر]

فابتَدَأَها بقوله (إِنَّمَا) و ما حَمَلَتْ من قَصْرٍ و حَصْرٍ للخشية عندَ العُلَماءِ ثُمَّ أخذَتْ بالعلماء و ما احتملوا من عِلْمٍ إلى قصرِ وحصرِ غايتهم الكُبْرىٰ عندَ الخشية من الله …

وبابُ الخشية أوسعُ من بابِ الخوف ؛ فإنَّ الخائفَ إنما يخاف من مجهولٍ لا يعلمه و أمَّا الخاشي فإنما يخاف من معلوم يعلمُه ، ثم إنَّ الخائف لا يملك أداة إزالة خوفه و أمَّا الخاشي فهو مالكُها ، ثم إنَّ الخائف مرعوبٌ و الخاشي مرهوبٌ و شَتَّان بينهما ، فالمرعوب ضالٌّ تائهٌ لا يلتمس طريق النجاة و أمَّا المرهوب مُهْتَدٍ يرىٰ طريقَ نجاته يريدُ أن يبلُغَه ، ثُمَّ إنَّ المرعوبَ نافِرٌ مِمَّن يُرعبُه غير آملٍ فيه و المرهوب خاشع لمن يُرهِبُه آمِلٌ فيه ، فإنَّكَ – المُتَدَرِّعَ السببَ – مرعوبٌ و إنَّا – المُتَدَرِّعينَ المُسَبِّبَ – مرهوبون … و شتَّان .

و قد تقدَّمَ المُسَبِّبُ – المَفعُولَ – على مُحدِثِ السَّبَبِ – العلماءَ – إنَّما لبيان أهمية المُسَبِّبِ و وضعِهِ موضعَ الغاية و تأخير السببِ المُمْتَثِلِ في العلماء لبيانِ أنه الوسيلة .

أَلَا فانظر الآن الفرقَ بيننا و بينَك؛ أحدُنا وقفَ عندَ السبب و تَدَرَّعَ به و آخَرُنَا اجتازَ السببَ و بلغ الغاية عندَ المُسَبِّبِ حتى تَدَرَّعَ به، فأيُّنَا الآنَ أخوفُ … لقد تَدَرَّعنا بالمُسَبِّبِ ووقفْنَا آمنين مُطْمَئِنّينَ أَلَّنْ يُصِيبَنا إلا ما كَتَبَه لنا وأنَّ لقاءَنا به لقاءُ رحمة ووقفتَ أنتَ مرعوبًا عندَ حدودِ ما بلغتَ من سببٍ ترتعش خشيةَ أن يعجَزَ سببُكَ عن حمايتِكَ مِمَّنْ سبقناكَ إليه – المُسَبِّبَ – فأمَّنَا وأمَّنَنَا …

لقد آنَ الأوانُ أن يَحصُدَ كُلٌّ منا ما لديه ثم إيَّاكَ أن تَتَّهِمَنا بالجهلِ و التخلُّفِ وقد سبقناكَ بالسببِ للمُسَبِّبِ خاشينَ مُطْمَئِنِّينَ مرهوبينَ، ووقفتَ أنتَ عندَ حَدِّ السبب خائفًا مُرتَعِشًا مرعوبا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى