حتى لا ننسى أسد رام الله: مروان البرغوثي
محمد المحسن | تونس
اقتادتك فلسطين من يد روحك إلى فردوس الطمأنينة بل ربما الى النقيض… أنت الآن وحدك في عراء الخليقة الدامي، تقذفه الرياح الكونية من زنزانة… إلى معتقل… إلى هواء، يتهدم… إلى أرض تباع… الى عدالة عمياء.. الى ضمير أعزل وكفيف..والى أمل يضيق ولا يتهدم..
وعلى شاشة الملأ الكوني، تترقرق الدمعة الأكثر إيلاما وسطوعا في تاريخ صناعة العذاب، وتعلو صيحة الضمير المعطوب،دون أن تسمع..!
ودائما : ثمة شهداء يسقطون..ودائما خلف القاتل،ثمة حلفاء وقضاة وجيوش..وخلف الضحية… العماء والصمت..وخلف العماء والصمت شعب يقيم أعراسه على حواف المقابر : أعراس مجللة بالسواد ومبللة بالنحيب،أعراس دم.
لكن…
ثمة أمل ينبثق من دفقات الدم ووضوح الموت..أمل يتمطى عبر التخوم..
وإذن؟
وحدك إذا، بامكانك أن تحمل بين ضلوعك أملا وضّاء ينير عتمات الدروب أمامك.. ووحدك بامكانك أن تقايض سخط الجلاد الحاقد بكلمة الأمل الغاضب..فقد علمنا التاريخ -يا مروان-أنه في أحيان كثيرة يمكن للأمل الأعزل أن ينتصر على جنون القوة المدرعة،كما علمنا كذلك،أن السفاح بما يريقه من دم يحدد الثمن النهائي لدمه،لهذا يمكنك أن تذهب بأحلامك من حافة الموت إلى حافة الحياة حيث سترى خلف دخان الجنون وجلبة القوة.
علم فلسطين وشمسها وأشجارها وحقولها وسمائها..وتحت سمائها تتلألأ الرنة السخية لفرح الإنسان.
هناك، وعلى التخوم الفاصلة بين البسمة والدمعة ستعثر على فلسطين الحميمة وقد هيأت لك مقعدا مريحا ونافذة مفتوحة وسماء صافية وظلا ظليلا.. ورغيفا لذيذا.. وأنشودة عيد بهية.. لتنزل ضيفا جليلا على مائدتها.. مائدة الشهداء.. والشهداء الأحياء: مائدة التاريخ…
ونحن..!
نحن الذين نخبيء في عيوننا عتمات الأحزان، نحن من المحيط الى الخليج أمام البحر المتوسط، تنتصب أمامنا حاجبات الوميض، نقرأ أوجاعنا ونردد كلمات لم نعد نعرف أن نكتبها..
وأنت..أنت أيها الليث الجريح هل بوسعك منحنا قليلا من صبرك الرباني،فالروح محض عذاب؟
لكن من أين سيجد الصبر طريقه الى قلوب الحزانى والمعطوبين؟!
ومن أين سيسلك المريد دربه إلى محراب فلسطين؟!
مروان الصابر : في غفلة من الزمن، أوقعتك القافلة سهوا عنك… سهوا عنهم…وها أنت ترنو بصمت الى وجه فلسطين، هذه التي اتخذت منها قضية حياتك وموتك لا لأنها كانت بعد عام 48 احدى المشكلات السياسية التي تتناقل أخبارها صحف وطنك بين الحين والآخر،بل لأنها أصبحت أردت ذلك أو رغبت عنه مصيرك الشخصي دون زيادة أو مزايدة ودون نقص أو مناقصة..أصبحت هذه القضية المقدسة قضية وجودك كفرد ينتمي الى ما يدعي بالنوع البشري، لا كوطن فقط أو كأمة هي سبب حزنك أكثر من نصف قرن لا بسبب أن وطنك هرم في أربع أو خمس حروب بل لأنك مضطر كل يوم يمضي أن تجدد لها البيعة ثانية علها تخان…
مروان الرابض على تخوم الجرح: لا تخف،فالمعركة ستجيء،لكن قبل الموعد أو بعده، لذلك تستمر، ولأنها مستمرة فأنت مطالب بأن تكون حاضرا متى تُطلب وأينما طُلبت: الى السجن، المعتقل،القبو الجهنمي، المستشفى الأكثر بياضا من العدم،المنافي المتحركة الأرصفة الى المجهول. وعليك الإستبسال أردت ذلك أو رغبت عنه،لأن فلسطين قضية مقدسة، من أجلها تؤمم الديمقراطية فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة وفلسطين هي المعركة.لذلك عليك أن تجيدَ سماع الصوت، وأن تبدع في صداه.
مروان: لقد تعبت قليلا ولم تشخ. الزمن شاخ ولم يتعب.لكنك ظللت ترفض وترفض عقودا من الزمن، كان حزنك أثناءها يتلون أحيانا بألوان الطيف أو ألوان الورد.قاومت و هزمت لكنك انتصرت، كنت في المرآة عملاقا.لقد قلت لا بملء الفم والعقل والقلب والدم، ظلت فلسطين قضيتك المقدسة. فلسطين العربية كلها..
رأسك يدور،ولكن لا تتعب،قد تنسى قليلا ما يجري أمام عينيك لكنك لن تهزم..
بعد قليل سوف يوقفك الجلاد عند الحاجز بسؤال : حريتك أم حرية فلسطين؟
وسيوقفك ثانية عند الأسلاك ويسألك : العدل لك أم لفلسطين؟
أجبه بجسارة من لا يهاب الموت : فلسطين. وها هي فلسطين العربية كلها تقول لك : لم يفقد بعض البشر ايمانهم بالمسيح منذ ألفي عام،فهل تفقد أنت ايمانك بالقدس في نصف قرن فقط..؟! قطعا لا…
يا أسد رام الله : أنا كاتب هذه السطور المقيم في الشمال الافريقي،أنا الملتحف بمخمل الليل الجريح..
أنا المتورط بوجودي في زمن ملتهب..
أعرف أن الوجع في فلسطين رباني.كما أعرف أيضا أن الفعل هناك رسولي،لكني لا أملك سوى الحبر،وما من حبر يرقى إلى منصة الدم،وحتى حين يمور الدم في جسدي باحثا عن مخرج فاني لا أجد سوى الكتابة..
الكتابة عن الشيء تعادل حضوره في الزمن، ووجوده واستمراره في الحياة. ولأن الأمر كذلك فإني أصوغ لك هذه الكلمات علها تصلك عبر شيفرات الحرية، أو لعلها تصل إلى كل زنزانة محكمة الاغلاق وإلى كل معتقل عالي الأسوار وإلى كل منفى داخل الوطن أو وراء البحار. وما عليك أيها الشامخ في قبوك إلا أن تحيي الكلمة العربية التي ذبحت وجنت وجاعت ولم تنتحر بعد.