محمد سليم العمري .. فقيه يسكن المحراب
د. علي زين العابدين الحسيني |القاهرة – مصر
أثار انتباهي في المسجد النبوي الشريف ذلك الرجل المعمر الذي كنت أراه مسنداً ظهره على عمود ممسكاً بمصحفٍ بين يديه، لقد اختلف هذا الرجل عن جميع مَن كنت أراهم، يأتي قبل الفجر بوقت، ويلزم مكاناً بعينه في غالب جلساته بالمسجد، ويكاد يكون الأمر يومياً -كما لاحظته في المدة التي جلستها في المدينة المنورة- وكم تمنيت لو اكتشفت هوية هذا الرجل.
لقد اختلف عن غيره من رواد المسجد النبوي، فإذا ما أمسك مصحفه هذا الشيخ المسن فإنه لا ينشغل بأحدٍ، ولا يلتفت يمنة ولا يسرة، وتشعر حينما تنظر إليه أن قراءته للقرآن تختلف عن غيره، فهي قراءة رجلٍ عارفٍ بأسراره مطلعٍ على علومه، وفي وجهه تظهر عليه سيمات الصلاح والاستقامة، وما كان لمثلي أن يضيع فرصة التعرف على هؤلاء الأكابر بغية القرب منهم، فإنما البركة -كانت ولا تزال- مع كبارنا.
بسبب تواتر هذه الرؤية اليومية تشجعتُ فصليتُ بجانبه ذات يوم، وانتظرت بلهفٍ فراغه، حتى إذا ما انتهى من أوراده بادرته بالسلام وتقبيل يديه، وبدوره بادرني بالترحيب، ودار بيني وبينه حديثٌ طويل عرفتُ من خلاله أنه منشغل بتعليم طلبة الأكراد وجاوة، ولحسن الحظ وفقت لحضور بعض دروسه، فاستمعت لتقريراته، وما يضيفه من تعليقات عزيزة أثناء شرحه.
إنّه الفقيه العلامة الصوفي محمد سليم بن صلاح الدين بن الشيخ محمود بن الشيخ عبد القهار العمري الأسعردي الزوقيدي الكردي، نزيل المدينة المنورة، وشيخ من شيوخ المذهب الشافعي، ومدرس العلوم النقلية والعقلية بالمسجد النبوي الشريف، وقد أقام في المدينة مدة من الزمان يدرس فيها العلوم الشرعية والعربية احتساباً، فلا يتقاضى راتباً على ذلك، وله في المسجد النبوي مكانٌ معروف يجلس فيه، ويأتيه للدرس الصغير والكبير.
كان شيخنا المرحوم منور الشيبة، بهيّ الشكل، جميل الصورة، ذا مروءة، منجمعاً عن الناس، مقبلاً على شأنه، معتنياً بالتعليم، مقبلاً على ربه ليلاً ونهاراً، منشغلاً بالعبادة، فيقطع زمانه في تدريس علم أو قراءة قرآن، كثير الخمول والتواضع، محافظاً على أوقاته من ذهابها في غير نفع، يعيش بروحه ووجدانه مع الكتب التراثية، وكان شديد الالتزام بالمواعيد، رافضاً أيّ عذر يُساق إليه لمن تخلف عن موعدٍ معه، عالماً موسوعياً تشهد على ذلك تعليقاته النفسية، مدققاً في كل كلمة يسمعها.
قسّم وقته في المسجد النبوي بين العبادة والتعليم، وله وقت خاصٌ صرَفه لتعليم حفيده الذي انتشرت صورته معه على الشبكة العالمية للمعلومات “الإنترنت”، وكانت وفاته خسارة كبيرة على شافعية المدينة، كما أن حياته كانت أيضاً حسرة؛ حيث لم يستفد منه إلا القليل من طلبة الأحساء والأكراد وأهل جاوة، ويكفي لمعرفة قدره وعلو مكانته أنّه حفيد العلامة الكبير الشهير خليل الأسعردي، وأنه تلقى العلم كابراً عن كابر بالسند المتصل.
وكم فُجِعتُ عندما علمتُ بوفاة أستاذنا يوم الجمعة 20 من شهر شوال سنة 1441، ونعاه يوم وفاته تلميذه فضيلة الدكتور حسن بن عبد الرحمن الحسين الأحسائي المالكيّ -عضو هيئة التدريس بجامعة الملك فيصل- فكتب: “قدم اليوم إلى رحمة الله تعالى أحد كبار علماء الكرد شيخنا العالم العابد الصالح المعمر الشيخ محمد سليم العمري الأسعردي ثم المدني، كان رحمه الله عالماً متفنناً في علوم الآلة من لغة ومنطق وآداب بحث ومناظرة، وعارفاً بفقه الشافعية، صاحب عبادة وقيام وذكر”.
وأخبرني فضيلة الدكتور حسن الحسين أنه قرأ على أستاذنا المرحوم في المدينة المنورة عدة كتب قراءة دراية في المنطق والنحو والصرف والبلاغة، وكان يستغل وجوده في المدينة حين زيارته لها فيصرف وقته في القراءة على شيخنا، وله منه إجازتان مكتوبتان، إحداهما مختصرة والأخرى مطولة، وقد أحالني شيخنا عند إجازته لي إلى تلك الإجازة المطولة.
اجتمعتُ بشيخنا المرحوم بالمسجد النبوي وأخذتُ عنه أبواباً معدودة في الفقه الشافعي، وأجازني في فقه الشافعية وغيره مراراً بسنده الشهير المسلسل بأجداده، فقد تلقى الفقه الشافعي وغيره من العلوم عن عمه الشيخ محمد جنيد العمري، عن الشيخ محمود العمري، عن الشيخ عبد القهار العمري، عن ابن عمه الملا عمر العمري، عن عمه الملا مصطفى العمري، عن الملا خليل العمري الأسعردي بسنده المعروف في بلاد الأكراد.
إنّ حياة أستاذنا تستدعي الإعجاب، حرص على التدريس، ومحافظة على العبادة، وعكوف على أوراد مشبعة للروح والوجدان، ومشاركة في غالب الفنون، والتفات إلى صغار الطلبة، وأيام مملوءة بالجد والإخلاص، تغمده الله بواسع غفرانه وأسكنه فسيح جنانه.