فكر

عبقرية الفقر

أ.د. محمد سعيد حسب النبي
تبدت مظاهر نبوغه الموسيقي وهو في الثالثة من عمره، وبدأ يؤلف ألحاناً وهو في الرابعة، وعزف أمام الجمهور وهو في الخامسة، ونشر أول إنتاج له وهو في السادسة. قام بجولات في أوروبا استغرقت سنوات طويلة، ليعزف موسيقاه في أعظم مسارحها. أعجب به إمبراطور النمسا “فرانسيس الأول” إلى درجة أنه كان يجلس إلى جواره وينصت في شغف إلى عزفه ويسميه “ساحري الصغير”. ورغم ذلك فقد كان فقيراً معدماً حتى أنه لم يكن قادراً على شراء الخشب الذي يدفئ نفسه بناره في حجرته المتواضعة التي كان يعيش فيها، فكان يعمد إلى وضع يديه في جورب من الصوف كي يستدفئ ويقوى على تأليف موسيقاه الرائعة التي جعلته في الخالدين. وتوحي الإشاعات أن “موزار” مات شاباً بعد أن دس له السم واحد من حاسديه، ولكن الراجح أنه مات سقيماً حيث لم يكن لديه من المال ما يدفع به مرضه. إنه الفقر الذي كان سبباً في وفاته، كما كان سبباً في عبقريته وإبداعه.
إن المتأمل في أحوال المبدعين ومن بلغوا شأناً تاريخياً مرموقاً سيجد أن هؤلاء كانوا يعانون الفقر في حياتهم، فهل يولّد الفقر شيئاً في الذات يطور منها ويهيّج مواهبها، هل غرس الفقر شيئاً روحانياً جميلاً في “موزار” أثار لديه العواطف والأحاسيس؛ فعندما تستمع إلى مقطوعاته سترى ألقاً روحانياً وعذوبة شفيفة، وشتى المشاعر التي عاشها رجل تألم وقاسى كثيراً، رجل كافح واحتمل البرد والجوع، رجل ذاق مرارة الحياة وسبر أغوار اليأس. ورغم ذلك فقد وقفتْ على شواطئ عبقريته أجيال، وما استطاع الدهر أن يطويه جيلاً بعد جيل، ولم يستطع أن يمسه بسوء. ولو ذقت موسيقاه لوجدت راحة المكدود ومتعة النفس، وسلوة العاشق، ودمعة المتصوف ليست منه ببعيد.
والتساؤل الذي ما زال حائراً هل يُلهم الفقر الإنسان ما يجعله يبدع ويبتكر؛ وإلا فكيف نفسر ما أُلهم به أمثال “موزار” من إبداعات أصيلة، حلقوا بها في سماء الناس! ويبدو أنه ليس صحيحاً أن أجمل النوازع الروحانية تختفي إذا أصيب صاحبها بفاقة تلوّى بها جسده. إن شعور الإنسان بضعفه وعجزه وعيوبه هو الذي حفّزه على أن يطور نفسه ويرقيها ويسير بها إلى الكمال، ولوتأملنا التاريخ لوجدناه قفز قفزات واسعة في سبيل الرقي عن طريق من عانى واستشعر العجز والحاجة.
والعبقري الملهم -غنياً كان أم فقيراً- هو من ينظر إلى طاقاته الذاتية والنفسية والروحية كأنها أوتار مختلفة في آلة واحدة تتناسق وتتناغم لتنتج صوتاً عذباً جميلاً يطرب له الناس ويحفظه التاريخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى