حكايا من القرايا.. ” أمي… أمي… أمي”

عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين

 

أكبر مصممة أزياء… وأقدم مصممة أزياء… هي أمي رحمها الله…

كان عندها ماكينة (سنجر)… وتخيط الملابس للجميع… حتى كانت تصمم البدلات للعرايس… تزينها بالقيطان والكشكش، وتلاوين قماشية أخرى، ويكون أحلى ما يكون الثوب ” المردّن” والثوب ” اليلتش” وسراويل مزاريب الذهب… المحبوكة البدايات، والمزينة النهايات بالكشكش…

كانت لا ترمي رداءً أو خَلَقاً أو ثوباً… وإنما الصغير يكبر ويلبس ما لبسه أخوه الأكبر، إنه  التخطيط في تصميم الملابس… ومن دبّرت ما جاعت…

التدبير… التدبير، إذا انمزع الرداء، يرقّع… مرةً وثانيةً وثالثةً… حتى ليبدو مثل سراويل القرن الواحد والعشرين… مرقّعاً بامتياز… أمي سبقت المصممين كلهم في الترقيع، وإذا تمزق الرداء كل ممزق… تحول وببساطة متناهية إلى ممسحة أثاث، أو شبابيك وأبواب… وإذا (استتلف) تحول إلى ممسحة أرضية… ومن دبرت ما جاعت… ومن رقّعت ما عريت…

أمي خاطت من شوالات الطحين، شوالات المؤن، ملابس داخلية لنا، كانت بيضاء نزهو بها، لولا ظهور توقيع المهدي عليها أحياناً، أو بعض توقيعه، كان ذلك يسبب لنا بعض الحرج، كمن يأخذ هدية لصاحبه وينسى ويبقي السعر عليها… ومع هذا كنا نزهو بها… وكانت ألبستنا تزهو على حبالها عند نشرها… بيضاء تسر اللابسين…

رحم الله أمي… والله اشتقنا لأكياس القماش المدرسية… نضع فيها كتبنا ودفاترنا، ونعلق الكيس في رقابنا… ويكون على الجنب الأيمن أو الأيسر… وننطلق إلى مدارسنا كعصافير الصباح إلى حقولها وأشجارها… كانت تخيطها أمي من بقايا القماش المقصوص، تأتي به، وتضم بعضه إلى بعض، ويخرج من ماكينة (السنجر) كيساً ملوناً رائعاً… سامحك الله يا أمي، كانت أكياسك خريفية وربيعية، أما في الشتاء فكانت تغرق مطراً، ونصونها بوضعها فوق صدرنا تحت قمصاننا… وفي الصيف عندما تُعطّل المدارس، استعملنا الكيس لأغراض شتّى… كوضع الزاد فيه عند السراحة، أو توظيفه كوعاء نخرط فيه الثمار كاللوز… وغيره… أو نتبعّر فيه الثمار، كالزيتون والمشمش والكرز وغيره…

اشتقنا للكنزات والجرازي الصوفية يا أمي… كنت تقضين ليلك ونهارك وأنت تصوغين أحلى ملحمة عشق وحب لأبنائك… في كل غرزة قبلة، وفي كل حَبْكة وردة… وفي الألوان دعواتك بآفاق الحياة الحلوة… والسعد…

رحمك الله يا أمي، لم تتركي ماكينة الحياكة، ولا الإبرة والخيط والمكوك حتى في آخر عمرك… وعندما ضاقت حدقات عينيك، وضعف البصر، كنت تنادينا كي (نلظم) لك الإبرة… تصيحين تعالوا ” آووا لي الإبرة” ثم تستمرين في عملك… ما أصبرك على العمل! كنت أراك في الليل ونحن نيام، وأنت تنسجين الملابس، تضيء حولك ” نواصة” بالكاد تراها بعض فراشات… تدور حولها… وعندما كبرنا يا أمي، وأصبحنا نستطيع أن نجازيك ببعض ما نستطيع، ولن نستطيع رد الجميل مهما حاولنا، عندما كبرنا، ابتسمت لنا، ولوحت بيدها… ورحلت… وكأنك أديت الرسالة، وانتهت المهمة، ولا تنتظرين منا شيئاً…

رحم الله أمهاتنا… وأسكنهن فسيح جنانه… لقد عملن بجد ونشاط… كن الرياديّات، بل نماذج في الريادة وقصص النجاح… يعملن في الأرض والبيت… وتمكنّ من تكوين حياة لأسرة من الصفر… تعالوا خذوا طرفاً من سيرتهن، واجعلوه نموذجاً لكم… تدربوا عليه وحاولوا ممارسته… لتصبحوا منتجين تعتمدون على أنفسكم، وتتجنبوا حياة الاستهلاك وقيمها…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى