الدجاجة والفلسفة!.. قصة قصيرة
سعيد نفاع | فلسطين
كان رشاد يرفل بالزهوّ يوم عاد في أولّ إجازة بعد غياب سنة، وقد كان سافر للدراسة خارج البلاد في زمن كان مجرّد السفر خارج البلاد حدثًا، وكم بالحري في قريته. يوم سافر ويوم عاد كان الزهوّ يكلّل أيضًا والده وإن كان ممزوجًا خوفًا يوم سافر فهو ممزوج اليوم فخرًا.
كان رشاد ابن قرية يمتاز أهلها بسرعة الخاطر وخفّة الظلّ، إضافة لحبّهم مشاطرة بعضهم البعض الفرح والترح، فطبيعيّ كان أن يقوم المتقدّمون في السنّ بالواجب تجاه رشاد وذويه، والذي يُحَتّم: “السلام عليه”. وهذه في مصطلح أهل القرية زيارة تهنئته بالسلامة، والسؤال عن حاله وأحواله.
لم يفت الراوي طبعًا أن يضيف أنّ الواجب هذا، والمتعارف عليه في سُنّة البلد، لم يكن بريئًا كليّا في حالتنا من غريزة حبّ استطلاع أحوال بلاد برّة. وعلى مدى أيّام، أمّ كُثر من المهنّئين دار أهل رشاد تباعًا، هذا داخل وذاك خارج جماعة وأفرادا.
كانت الأسئلة والردود عن حاله وأحوال “برّاة” البلاد وأهلها تنهال على رشاد على عواهنها، وليس قبل أن يدبّها الدبّور وهو شيخ من ظرفاء القرية غالب لقبه هذا على اسمه حتّى نسي البعض اسمه الحقيقي، يدبّها مدوّية في وجه رشاد دون أن يمهله أخذ النفس بعد أوّل ردّ: “الله يجيرنا من شابّ تغرّب ومن خِتْيار ماتت أجياله”.
لم يبدُ على رشاد الذي كان يعرف الشيخ وظرفه حقّ المعرفة أيُّ ارتباك، اللهم إلّا بسمةٌ عريضة علت محيّاه ورافقت كلامه، وهو يتابع الأخذ والردّ بتأنّ ورويّة ملتفتًا بين الفينة والأخرى نحو الشيخ يتفقّد أحواله وردود فعله على ما يقول.
فسارعه الدبّور ودون أن يعطيه الفرصة لالتقاط أنفاسه بعد ردّ طويل:
_ عمّي! شو يعني انت رحت على هَ الغُربِة تتعلم؟! ما في منُّه تعليمك هذا في البلاد؟!
_ فلسفة عمّي؟!
بدت على الدبّور علامات استغراب، ومع هذا تابع مستدركًا:
_ شو يعني فلسفة؟! هاي يعني تقرب الفلفسة اللي عنّا… بنت عمها واللا خالها؟!
بدا على رشاد بعض ارتباك مردّه التساؤل: كيف سيشرح لرجل في هذا الجيل بصعوبة “يفكّ الحرف”: “شو يعني فلسفة وصلة القرابة بينها وبين الفلفسة”، وهو العارف أنّ هذه الأخيرة وسياقها السلبيّ يتداولان على ألسن الناس في حالات غرابة طرح أو احتجاجًا على شكل ومضمون الطرح، كيف سيفعلها وهو الذي كان شقّه التعبُ كي يقنع والده بالسفر أوّلا والأصعب والأشقى لتعلّم الفلسفة؟!
خطرت على باله إجابة اطمأنّ لها معتقدًا مزهوّا بفطنته أنّه سيوفي الضيف حقّه، فدار بينهما، على ذمّة الراوي، هذا الحديث المقتضب من خلال ابتسامةٍ كانت تخالط كلام رشاد وتقطيبٍ وانفراج يداعبان حاجبي الشيخ تناسبًا مع كلام رشاد:
– يعني… نقول حضرتك عمّي قاعد على الكرسي…
– طيّب!
– والكرسي على الأرض…
– طيّب!
– فنقدر نقول… حضرتك قاعد على الأرض… وهاي فلسفة!
بهت الدبّور لوهلة منتظرًا تكملة، وما لبث أن انفجر يضحك ملء شدقيه، وسارع وفي لهجته بعض سخرية فلاحيّة مجيبًا:
– كل هَ الغربة عشان تتعلّم هذا؟!
– لا عمّي… هذا مثل شو يعني فلسفة!
– يعني يا ابن الأوادم هاي عنّا من يوم ما خلقنا… يعني: نقول أهلك كان عندهم وبعدُهْ، شويّة دجاجات سارحات في الحاكورة… ومعهن ديك واللا اثنين للخدمة!
– صحيح!
– وانت صغير كنت، عدم المؤاخذة” تقضي “حاجتك” في الحاكورة… مظبوط؟!
ردّ رشاد باسمًا: صحيح!
– وكانوا الدجاجات يوكلوا حاجتك! صحيح؟!
اتّسعت ابتسامته ومن خلالها ردّ: صحيح!
– وانت كنت توكل بيظات الدجاجات…
وصمت الشيخ ربّما يحاول اختيار كلمات النهاية.
خامر رشاد الإحساس أنّه “علق علقة سخنة” ما كان أسعفه زهّوُّه بقدرته وفطنتُه أن يتوّقعها، فبدت تعلو وجهه ابتسامة أوسع منتظرًا ليس النهاية، فقد فهم أين يورد الشيخ إبله، وإنّما انتظارًا لشكل الصياغة. لم يمهله الشيخ الدبّور، إلّا قليلًا ويبدو أنّه كان يفكّر هو الآخر ليس في الخلاصة وإنّما في صياغتها، فتابع:
يعني نقدر نقول انت كنت توكل “شَرا”….
والتخفيف هذا بإبدال الخاء بالشين لا يعرف أحدٌ لما ارتآه كبار السنّ في القرية تخفيفًا من حدّة الكلمات النابية، قاعدة تسري على الكثير منها.
ومع هذا أترك لك عزيزي القارئ أن تضع نهاية القصّة التي تريد!
أوائل آب 2021