سأنزل في هذه المحطة

جميلة شحادة | فلسطين

اللوحة للفنان العراقي سيروان زنكة

هل الجحيم مكانٌ مظلمٌ وبارد؟ هل الجحيم نارٌ وسعير؟ هل الجحيم… مالي أفكر بهذه الأفكار الآن؟ مالي وبما يعتقده الهندوس أو البوذّيون أو غيرهم عن الجحيم؟ وعادتْ لتجيب عن سؤاله:

– آسفة، لا شأن لي بعلاجات صداع الرأس. أنا لست طبيبة.

– لكني سمعتهم يقولون لك: مع السلامة يا دكتورة.

– صحيح، هذا لأني حاصلة على شهادة الدكتوراه.

– وفي أي موضوع يا سيدتي انت حاصلة على شهادة الدكتوراه؟ عاد يسألها عبد الله.

– بموضوع التاريخ. أجابته، ولم تزد حرفًا واحدًا على هاتيْن الكلمتيْن؛ وكأن لغتها جفّت أو تعطَّلت بسبب خلل ما. لقد اكتفت بهاتيْن الكلمتيْن لتجيبه عن سؤاله بالرغم من أنها كانت ترغب بأن تخبره عن صعوبة الطريق التي سلكتها حتى حصلت على شهادة الدكتوراه. كانت تودّ أن تخبره عن عدد المخطوطات التي قرأتها، وعن الليالي التي سهرتها متبحِّرة في غزارة المعرفة التي وجدتها في هذه المخطوطات، لقد قرأتها بعين ثاقبة، حتى اتشح بياض عينيْها باللون الأحمر. كانت تودّ ان تخبره كم مرة سافرت الى خارج حدود الوطن لتحصل على مخطوط ما موجود في بلد غير بلدها، أو على مصدر قد وضع على رف بعيدًا عن متناول اليد في مكتبة ما. أرادت ان تخبره أنها قرأت التأريخ بعين ناقدة، وبأنها لم تقبل بغير ذلك، ولن تقبل. ارادت أن تخبره، كم من الزيف اكتشفت في كتابة التأريخ الذي قرأته، وعن عدد المرات التي اصطدمت فيها بوقائع متضاربة، لكنها لم تفعل. فما لها ولسائق سيارة أجرة كل مرادها منه أن يوصلها الى قاعة السعادة فقط. هذا هو هدفها الذي أخبرته به منذ البداية؛ الوصول الى قاعة السعادة، حيث ينتظرها المئات هناك لتلقي عليهم محاضرتها: “التأريخ يكتبه المنتصرون”. نظر عبد الله في المرآة التي أمامه، فشاهدها وهي تجلس في المقعد الخلفي من المركبة، غارقة في أفكارها. لم يسألها عمّا يشغل بالها، ربما لأن جمالها وأناقتها بهراه أكثر من أي أمر آخر فيها. ساد الصمت، وازدحمت الرؤوس بالأفكار. أراد عبد الله أن يكسر الصمت المخيّم على مركبته، فشغّل المسجّل وانبعثت منه أغنية ذات ألحان راقصة، وكلمات تافهة لمؤدٍ شاب. أرادت أن تصرخ به ليغيّر الأغنية بأغنية “أكتبلك تعهُّد” لمطربتها المفضلة أنغام، لكن صرختها تجمدّت على جليد شفتيها، فراحت تسترجع كلمات الأغنية في عقلها:

ممكن تسيبني أشتري

عمري اللي باقي

قول بكام

أنا ممكن أكتبلك تعهد مني

إني هعيش لوحدي باقي عمري

بس أعيشه باحترام.

وفجأة شعرت ببرودة شديدة في المركبة، ففهمت أن عبد الله خفَّض درجة حرارة المكيّف. أرادت أن تصرخ به ليرفع درجة الحرارة قبل أن تتجمد، لكنها آثرت الصمت. مدّت يدها الى جانبها الأيمن، التقطت شالًا من الكشمير بلون خمري كانت قد اصطحبته معها، ألقت به على كتفيها، شدته بقوة حول ذراعيها، تمسّكت به ليبثّ الدفء في جسدها وروحها، لكنها لم تنجح. أحست بشي يقبض روحها، شيء يهزها بشدة ويحرضها لتتحرك، لتبكي، لتتنفس بعمق، فراحت تأخذ نفسًا عميقَا لتستوعب ما تبقى من الأكسجين الذي في هواء المركبة. لم يسعفها هذا القليل من الأكسجين لينعش روحها، خشيت أن لا تصل الى قاعة السعادة، فتحت النافذة بجانبها، رأت على بعد 3 أمتار محطة الحافلات، انفجرت صرختها: توقّف! سأنزل في هذه المحطة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى