سينما الاكستريم: دفتر الواقع الفائق

نداء يونس | فلسطين


“ان عاشق جماليات تجاوز الحدود، دمر الصورة مرتين: مرة عندما أراد تبسيطها” عندما تبنَّى مبدأ “يجب ألا نُعطي صورة معقدة عن العالم”، ومرة ثانية، عندما أضاع بوصلة التوازن بين الصوت والصورة”.

في فرادة هذا التعليق الذي أورده د. ليث عبد الأمير على اعمال المخرج غودار مدخل الى فهم سينما الأكستريم التي تناولها د.عبد الأمير في كتابه “سينما الأَكستَريم: جماليّات الحدود والتجاوُز” الصادر عن دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر في 268 صفحة من القطع المتوسط عام 2020، في 12 فصلا تناولت دور المونتاج في إعادة كتابة الحقيقة ونظريات السينما والانتقالات التي طورتها كفن وكممارسة ومفاهيمها وصولا الى سينما الأَكستَريم والتي تعني “الهدم والتجاوز لكل المحرمات:هدم للشكل، وتجاوز على اللغة، ولعب على الأسلوب، وكسر للمفهوم التقليدي للشاشة، وشمل ذلك، الصورة والصوت والموسيقى التصويرية والتعليق الفيلمي أيضًا فسينما الأكستَريم، هي سينما التجاوز والعبور إلى عوالم جديدة غير مكتشفة، وهي سينما الرفض والتدمير، وهي سينما تعشقُ الهدم وترفضُ الانغلاق في دائرة أي تعريف، حتى الأَكستَريم ذاته، لأنها حالما تصل إلى حدوده، تبدأ في البحث عن حدود جديدة أخرى”.

ويعني هذا ان الأَكستَريم تجاوز مستمر لذاته في عصر الحداثة الفائقة الفردية التي “تنقلنا إلى استباحة الجسد ورؤية كل شيء” بالشكل البورنوجرافي والفضائحي وهي بالتالي “ليست إلا حداثة متطرفة لا تأبه بأي حدود أو موانع، وتستخدم أسلوب الصدمة والتجاوز كطريقة مثلى لتحقيق انفجار بصري، كي تُزلزل أرواحًا جزعة قتلها الملل، واليأسُ، والضجر”. كما وتأخذنا هذه السينما الى مشاهدته من خلال العنف والموت والدم “مشاهد العنف وآلام الجسد]اي مشاهد الموت بصورة حية [“لأغراض دعائية بحتة، تمامًا كما تعمل مراكزُ الإعلام في زمننا المعاصر” وتحول الاحداث الى “فرجة كبيرة” وحيث يتحول العنف الى “خطاب (جسدي ونفسي) يعتاش عليه متلصصو الاجساد.
يقدم هذا العمل جهدا بحثيا يقدم “تبويبًا طوبوغرافيًا لأفلام الأكستَريم التاريخية والحديثة التي حملت ملامح الأكستَريم”، حيث عمل على رصد اعمال مخرجين – بينهم مخرجة واحدة فقط هي الروسية ألستير شب- وتفكيك اعمالهم في إطار تعريفه لسينما الأكستريم، ومن خلال رؤى وايديولوجيات مخرجيها وبما لا يستثني السياق الذي نشأت فيه هذه الأفلام وفي عدة بلدان أوروبية في عصر الشيوعية وما بعدها وليس بعيدا عن الايديولوجيا ورفض الايديولوجيا أي مدى توظيف هذه السينما لأغراض سياسية من المخرجين أنفسهم كفعل رافض للسياسة ومتجاوز لسلطات الخطاب او من قبل الأنظمة كأداة إنتاج وإعادة انتاج للسلطوي والتحكم بطريقة انتاج صورة تلك الانظمة، وما استتبع ذلك من عقاب للمخرجين الرافضين لسلطات الخطاب هذه، كما تناولت هذه الدراسة تحولات الشكل والمضمون وتدمير الذات والموضوع والمعنى وتحول السينما إلى أرضية لشرعنة القبح والعنف وتطبيعهما واحيانا أخرى لتجاوز حدود مبنية وخلق الجمالي.


لم يغفل الكتاب محاولة غودار لمناقشة القضية الفلسطينية من خلال هذا النوع من السينما، وان كان غودار – وفقا للكاتب – تجاوز الجماليات على حساب الايديولوجي الفكري.
تكمن أهمية هذه الدراسة خطابيا – كما أرى- في انها تقودنا بالضرورة الى محاولة ربط سينما الأكستريم مع نظرية الأدرمة أو الدراما لبيير بابان وحيث يؤكد الكاتب ان “أن أهم فاعل يُحدد الحالة القصوى هو “دراماتيكيتها” والتي نعثر عن تجسيدات لها كظاهرة “في الأدب والصحافة وفي الفن بخاصة” وحيث “يتفجرُ الأكستريم بصيغ مشهدية متنوعة” وبالتالي يمكن الذهاب إلى فهم إجرائي اعمق لكيفية اشتغال شبكة من العلاقات الايديولوجية والتقنية المعقدة على احداث الصدمة وانتاج التوتر والتركيز على قضايا جاذبة للجمهور من خلال “نظام قاس من أجل حركة أكثر دقة” وهو الامر الذي شكل جزءا من منهجية اطروحتي البحثية المعنونة “التأطير والانكار: التظهير البصري للفلسطينيات في الصحافة الإسرائيلية الإلكترونية الناطقة بالإنجليزية”.

إن: “ما نطلبه من المونتاج هو، خلاصة هندسية للحركة عن طريق تعاقب جذاب للصور” فقط، فيما تظل الأبنية الداخلية لكيفية بناء الصورة والتحكم بمن وماذا يدخل الى الخطاب سواء كان نصا ام صورة مما يتجاوز التقني الذي يصبح أداة وشكلا إخراجيا.

إذا، مبدأ عمل الأكستريم الذي ينبني من خلال التعليق حيث تستخدم سينما الأكستريم التعليق أيضا لهذه الغاية وهو مبدأ فوكوي حيث يتم بصريا ولغويا أيضا “تركيب صوت صحيح (son) على صورة (image) مريضة وربط صوت صحيح على صورة خطأ” ومن خلال المونتاج اللذان يعملان “على سلسلة من الصدمات، تستثني انفعال الجماهير وبالتالي تفكيرهم. حيث تؤثر الصدمات في المشاهدين، وتبعث على ردود أفعال استجابية، فيصبح المشاهد هكذا، مُشاركًا في الفيلم وليس متلقيًا سلبيًا” لا يختلف عن حقل اشتغالات الأدرمة وعن فكرة التورط التي تحمل بعدا خطابيا، وتتداخلان بحيث تصبح الأبنية وادواتها وسيلة لفهم كيف يعاد تشكيل الواقع.

ركز الكاتب على الواقعي والمصطنع او الحقيقي والخيالي من خلال البعد التقني وعلى اشتغال المسافة الوهمية التي تقابلها ارادة الحقيقة عند فوكو حيث “ينشط الأكستريم ويجد له خير تعبير في وقائع الحوادث الجارية وإعادة صياغتها بأساليب جديدة تعيد انتاج الواقع وتبني على عدة تمثلات منها ” البدائية والوحشية” وحيث “تتجلى الهمجية، في أقسى حالاتها، مطعمة بشحنات من الصدمات المتوالية، يلفها التضاد المونتاجي بين حضارات إنسانية متنوعة، ولا يجمع أي رابط، فيما بينها” وهي مفاهيم تستند الى علاقات القوة والمعرفة الفوكوية، وتعتمد مخرجاتها على طريقة العرض” التي تبنى “على دراسات نفسية وعميقة لطريقة الاستقبال الجماهيري للصورة”.


تصلح هذه المنهجية المزدوجة للبحث في خطاب السينما وكيف تصبح الصورة لغة يمكن قراءتها كبنية وكتلاعب بالبنى العقلية للجمهور، وحيث يلتقي الخطاب مع التقنية لتدمير السياق وتحويل المأساة الى فرجة والسيطرة عليها وهي محصلة اشتغال تقنيات الأدرمة الرئيسية، التي تكشف بالإضافة الى المونتاج “كم من المساحيق الملونة قد وضعت، للتخفيف من حدة التَراجيدّيا، بل لتحويل المأساة إلى خبر مبهج هو أقربُ لمهزلة، لكي يتم تفريغُ المأساة من هولها ووحشيتها”، وبالتالي تحويلها الى مشهدية في اطار ممارسات ما بعد حداثوية او ما اطلق عليه الكاتب واقع الفردية الفائق وتحديدا في السياقات الديكتاتورية والاستعمارية، وحيث يتم تحويل الحرب الى تسلية ورقص ومسيرات واستعراض احتفالي وتظاهرات لغوية وفنية، وهذا موضوع يمكن تطويره لعرض منفصل، لتبيان كيف يشتغل الخطاب المرئي والمقروء والمسموع ضمن السياسات الحيوية او إجراءات الضبط والتأديب لفوكو والذي يتم تحقيقه من خلال الافلام والاعلام والانشطة الفنية والسياسية، وبشكل يجعلك تصدق ان الظل هو الصورة وحيث تطغى النظرة للواقع the gaze على الواقع نفسه، او كما تريد هوليوود ان تقنعك بأن “ظل الحصان هو الحصانُ نفسه، ومن ثم سيصبح ظل الحصان، هذا، أكثر مصداقية من الحصان نفسه، وهنا الخطأ”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى