أعيدوني إلى القبو..
ياسمين كنعان | فلسطين
قالت له” إن اعتياد الأشياء القبيحة ذات الوجه الواحد المكرر لم تكن يوما أكبر مشكلاتي؛ إن أكثر ما كان يثير مخاوفي هو الخروج من دائرة البؤس والقبح التي ابتلعتني منذ أعوام بعيدة، و لسنوات طويلة!
إن مجرد التفكير في الخروج من المتاهة متاهة؛ في لحظة ارتباك كنت أقف أمام وحش مخاوفي وأتساءل بجبن؛ كيف أواجه هذا العالم وجها لوجه بكل ما فيه من متناقضات، وبكل ما في من جبن؟!
أحيانا أشبه اللحظة تلك بلحظة مواجهة الشمس للمرة الأولى بعد الخروج من القبو..!
في القبو أنت جزء من ذلك العالم الرطب المتعفن المعتم والخروج منه ومعانقة الشمس يحتاج إلى الكثير من الشجاعة؛ وأنا لا أدعي الشجاعة؛ بل على النقيض تماما كل كياناتي مهتزة ومتداعية، ولا أحمل بين ضلوعي إلا هذا القلب المرتجف، وليس في ذهني إلا تلك الأفكار السوداء المتشابكة عما يمكن أن أواجهه خارج هذه الجدران السميكة الرطبة!
بل صرت أخاف الخروج.. ربما لو تكسرت الأقفال عن الأبواب سأصرخ وأنا أتجنب النور الساطع، وأخفي وجهي بذراعي.. “أعيدوني إلى القبو..!”
إن من أراد لك أن تكون هنا بين هذه الجدران كان يفكر بعقلية السجان؛ وانتصار السجان بانتصار السجن؛ والسجن ينتصر حين يتحول إلى ملاذ آمن من العالم الخارجي؛ ولا يصير كذلك إلا بعد أن يزرع السجان الخوف في عقلك ويكسر قلبك.. وسجانك فعل ذلك وأكثر، لدرجة صار فيها سجنك نفسك لا هذه الجدران المتداعية..!
أنت بكل ما فيك مهزوم؛ لأنهم هزموا روحك وكبلوها بالوهم؛ وصرت وهم نفسك، فكيف تحارب وهمك وتنتصر عليه؛ كيف تخرج من ذاتك المكبلة، كيف تقف مرة أخرى أمام الشمس وتفتح عينيك وأنت لا تخشى الضوء؟!
كيف تقول لهذا العالم الذي تواريت منه طويلا..أنا هنا، كيف تحرر أصابعك من عقدة الخوف، كيف تقبض بكفيك على مخاوفك، وتقول للخوف هزمتك؟!
كيف وأنت المهزوم بكل ما فيك.. وكل هزائمك أنت!
كيف تخلع عنك كل هذه الأفكار، كيف تغزل من خيوط الشمس حريتك؟!
القبو فيك، وأنت قبو نفسك؛ تدخله لتنجو من كل الحقائق المرعبة… فهل نجوت؟!
حماقة أن تقول انتصرت، حماقة أن تقول نجوت..!
ستنجو حين تنزع عنك جلدك الميت..حين ترتدي نفسك، أو حين تتعرى من كل مخاوفك في الشمس..!”
قال لها وهو يعبث بفتيل السيجارة المحترقة” وما جدوى الخروج وقد احترق كل ما فيك… احترقت الروح واحترق القلب.. ومع كل سيجارة كنت أحرق أمالي، وأنفث روحها في الهواء وأتتبعها وهي تتلاشى أمامي غيمة دخان تلو الغيمة.!
كنت أستعجل لحظة التلاشي؛ وأحيانا أهش غيمات الدخان بكفي.. كنت محرقة آمالي..!
ما جدوى الخروج بروح محترقة وجسد أنهكه الانتظار!
صار الفناء في قبو نفسي أمنيتي؛ بل رغبتي الوحيدة… أحيانا أتخيل نفسي مثل أوراق نبتة طمرت طويلا تحت التراب؛ وفي اللحظة التي ينكشف عنها التراب؛ وما ان يلامسها الهواء أو يمسها الضوء حتى تصير رماد..!
أنا الآن ذاك الكائن الهش..روحي مثل ورقة متحللة فناؤها حتمي حين يلمسها الهوء أو يمسها الضوء!
أريد أن أفني نفسي في قبو نفسي..!
أو تدرين؛ حين يكف هذا القلب عن النبض لن يقولوا مات؛ فالكل يعرف أني أحمل جثتي على كتفي؛ لأعوام طويلة وأنا أحمل هذا الشيء الثقيل الذي يسمونه أنا، و أسميه جثة!
أما آن لي أن أستريح؛ أما آن لي أن أنزل جثتي عن جثتي، وأن أضمها للمرة الأخيرة وأنا أعبر آخر متاهات الحياة..متى أقول الآن لم يعد بي أي رغبة للخروج من القبو..أهيلوا علي التراب إن شئتم؛ الآن أتوحد بنفسي؛ هنا في داخل ما تسمونه القبر أو القبو، و أسميه نفسي..!”
نظرت إلى اللامكان الذي كان يحدق فيه..وقالت كأنها تعيد النشيد ذاته دون أن تنتبه..وأنا مثلك أريد الفناء في قبو نفسي..أنا مثلك لا يهمني الخروج، أريد أن أطمر نفسي بنفسي…!