قراءة في “حقيقة بنت حق” للشاعر محمد أبو عيد
قراءة : حمري سي مختار | المغرب
اللوحة للفنان البلجيكي: ألفريد ستيفنز
أولا – النص:
مذ الخريف الأول
تحديدا بعد سقوط الطربوش المضيء
من رأس الشجرة المكممة بطلع الغبار
وسنبلتي الطيبة ملقاة على آخر نهار
لا هي ظللت غنائي ولا جعلته للطير يمر
أبعد دائما عن حدود الأسئلة بمقدار (شماعة) …
كيف أؤاخي السؤال بالجواب ؟!
النهار ليس ماهرا في لعبة الجدل
وظلي لا يملك قطعة واحدة من حلوى المرواغة
سامحني يا إلهي واغفر فالنفس أمارة بالشعر
وأنت من حلل الميتة للمضطر
أول امبارح الطازج
كانت هشاشتي جائعة جدا
قررت أخيرا شواء آخر قناديلي الفطيس
فتحت باب العين واللسان
وسألت النار هل تبقى من رمادي حطب
قذفتني بشرر عقيم ثم أغلقت علي الشفتين
لا جدوى من النزف المكلوم على الهوامش
الحوار مع المرايا بدون شمس يفقد الظل توازنه
لي مع أصابعي المطيعة مآرب أخرى
في الليل أتركها في رأسي
تعد جروح الشجرة العجوز
في الصباح التائه تتهيأ بالقصائد الشهية
لضيافة الأرقام الجديدة
تعصر الشعر بالمجاز
وتصب الشوك في أقداح دمائي
على مائدة الريح
شرق لذيذ متبل ببهار البحار والأنهار والأشجار
مشوي على فحم الليل البارد
وقنينة آبار معتقة في حظيرة البقر
سأفتح صهريج الفراغ على آخر مدينة
أغسل الأثر القديم بالمحو والغرق
مذ براءة أحلامي المطاطية
علمني الدخان طقوس الطاعة وفقه الضعفاء
وكيف أقدم المدن الشهية للكواكب الضالة
الشجرة تخرج من عيني تطل على عيني !
أيتها المثقلة بالانطفاءات والمر والخيبات
في أي شيء يحملق جفافك العاري ؟
أنا حجر وموسى رحل
وليس في المدى عيسى
لست الذي سيقف على باب المقابر القديمة
ينادي الطرابيش ويعود بها إلى مسكن رأسك
ثانيا – القراءة:
1–مقدمة نظرية :
مفهوم سلطة اللغة عند ”رولان بارط” :
يرى بارط أنه لا يمكن اختزال السلطة في معناها السياسي فقط فهي دائمة الحضور في كل شيء يهم المجتمع و تمارس تاثيراتها بشكل خفي موسوم بالخديعة فهي توجد في الجماعات والطبقات والأراء الشائعة والافكار والأدب والمهرجانات والألعاب والمحافل الرياضية والحانات والحركات المعارضة والتحرر الوطني… ودور المثقف ليس العمل المباشر ضد السلطة بالمعنى السياسي . يقول بارط : ” فمعركنا تدور خارج هذا الميدان ، إنها تقوم ضد السلطة في أشكالها المتعددة ، وليست هذه بالمعركة السهلة ، ذلك أنه إن كانت السلطة متعددة في الفضاء الإجتماعي ، فهي بالمقابل ممتدة في الزمان التاريخي . وعندما نتصدى لها وندفعها من هنا سرعان ما تظهر هناك ، وهي لا تزول البتة ، قم ضدها بثورة بغية القضاء عليها وسرعان ما تنبعث وتنبت في حالة جديدة ،ومرد ذلك أن السلطة جرثومةعالقة بجهاز يخترق المجتمع ومرتبط بتاريخ البشرية في مجموعه وليس بالتاريخ السياسي وحده . هذا الشيء الذي ترتسم فيه السلطة منذ الأزل هو اللغة….” يصل بنا ”بارط”إلى أن الخطاب سلطة ، الحقيقة سلطة ، التاريخ سلطة ، الفيلسوف سلطة ، اللغة التي نعبر بها سلطة فعملية التعبير أسيرة للحروف والألفاظ والمعاني المتداولة، وبذلك يتفق مع نتشه بأن ”اللغة بيت السلطة ”… اللغة إذا خضوع وسلطة فإذا كانت الحرية الإنفلات من قهر السلطة ، على الخصوص ، وعدم إخضاع أي كان ، فلا مكان لها إلا خارج اللغة بيد أن اللغة البشرية لا خارج لها ، إنها انغلاق ولا محيد لنا عنها إلا بركوب المستحيل : إما بفضل الوحدة الصوفية مثلما وصفها كيركيغارد في فداء ابراهيم كفعل لا مثيل له ، خال من أي كلام حتى لو كان كلاما باطنيا يقوم ضد شمولية اللغة في كتابه ”خوف ورعدة ” واصفا لما كان يعتمل في باطن ابراهيم وهو يقبل عل التضحية بإبنه الوحيد …لكن بالنسبة لنا نحن الذين لسنا فرسان الإيمان مثل ابراهيم ولا الإنسان الأعلى الذي يتكلم عنه نتشه أو الإنسان الكامل الذي يتحدث عنه محيي الدين ابن عربي لا يبقى أمامنا إلا مراوغة اللغة وخيانتها ..هذه الخديعة العجيبة التي تسمح بادراك اللغة خارج سلطتها ، هذا مايطلق عليه بارط ”أدبا”.
2–العنوان : ”حقيقة بنت حق”
العنوان كعتبة أولى للنص مكون من جملة اسمية تنسب فيها الحقيقة الى الحق كأب
— الحقيقة :
الحقيقة في اللغة : الشيء الثابت يقينا /ما استعمل في معناه الأصلي لا المجازي/ خالص الشيء وكنهه
الحقيقة عند بعض الفلاسفة :
لالاند : ”الحقيقة هي خاصية ما هو حق وهي القضية الصادقة وما تمت البرهنة عليه الحقيقة بمعنى عام هي الواقع ”
ديكارت: الحقيقة هي أساسا حقيقة عقلية ما دامت المعرفة الحسية مشكوك فيها ، الحقيقة يتم التوصل إليها دون أن نخشى الوقوع في الخطأ بواسطة عمليتين عقليتين هما الحدس والإستنباط
سبينوزا : الحقيقة تحمل معيارها في ذاتها لأننا عندما نملك فكرة صحيحة نكون متأكدين منها ولا نشك في صحتها وبالتالي فالحقيقة معيار ذاتها ومعيار الخطأ
هيدغر :ينتقد مفهوم الحقيقة كواقع لأن هذا يؤدي إلى نفي واقعية الشيء الذي لا يصدق عليه المنطوق فالكلام مهما كان دقيقا لن يعبر عن الواقع كما هو( الكذب واقع لكنه ليس حقيقة )… وينتقد االمفهوم الكلاسيكي للحقيقة كمطابقة المنطوق للموضوع الذي يشير إليه لأنه يرى استحالة تطابق المنطوق ( اللامادي والمجرد )مع الشيء (المحسوس المادي ) يرى أن الحقيقة انكشاف و”لا تحجب” وحرية ، ترك الموجود يكون ما يكونه وتركه يكشف عن نفسه دون اكراه أو الزام حتى يتمكن المنطوق الإستحضاري أن يقيس عليه نفسه ، الحقيقة إذن انكشاف كينونة الكائن …
–حق: ( جمع:حقوق)
لغويا : – الثابت الذي لا يجب انكاره
حق الأمر: صح وثبت وصدق
فلسفيا هناك عدة تعريفات للحق نكتفي بذكر “التعريف الموضوعي” منها : الحق مصلحة يحميها القانون وبالتالي هناك عنصرين :
– المصلحة أو المنفعة التي تعود على صاحب الحق وقد تكون مادية أو أدبية أو معنوية
– الحماية القانونية
الحق في الفقه الاسلامي :
الحق هو الواجب الثابت المؤكد وهي مصلحةيخول لصاحبها بأعمال ضرورية لتحقيق هذه المصلحة ، الحق ما منحه الشرع لكافة الأفراد على حد سواء والزموا باحترامه ، وهو وسيلة لتحقيق مصلحة مشتركة ، والقانون هو الذي يقرر هذه المصلحة .
–انواع الحقوق :
– الحقوق المدنية :حرية التعبير / حرية الدين / حرية الفكر/الصحافة/التجمع/التنقل/حق الحياة / حق العمل /سلامة الجسد /تكوين اسرة /…
-الحقوق السياسية:
العدالة/المشاركة /تكوين الجمعيات والاحزاب/التصويت والترشح لشغل المناصب /الدفاع عن النفس /…
–واسوق بعض الامثلة المتداولة :
“الحق يعلى ولا يعلى عليه”
“ما ضاع حق وراءه طالب ”
قرآن كريم: “وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا “(الإسراء 81)
يتضح لنا اذن أن كلمتي “حقيقة ” ” وحق ” على العموم ليس لهما تعريف محدد بدقة
وقد جاءتا في العنوان نكرتين مما جعل الأمر اكثر صعوبة فأي حقيقة هي ؟! وأي حق هو ؟
لقد قدم الفيلسوف نتشه نقدا لمفهوم الحقيقة والحقيقي ، فقد رأى أن هناك فهما ميتافيزيقيا مضللا لمفهوم الحقيقة ، فالشيء الحقيقي : هو الخير والعام والواضح والنافع والجميل وقد سعى الفلاسفة حول هذا الوهم طوال تاريخ الفلسفة محاولين الوصول إلى ما هو حقيقي لكن السؤال الذي تناساه هؤلاء : من يملك تحديد الحقيقة ؟! وما هو هذا الحقيقي ؟!
العنوان الذي نحن بصدد محاورته قد وضع بين هلالين وبالتالي فهو ينسب للآخر وقد يكون الغرض منه التأكيد بالتكرار نظرا لتشاكل الكلمتين في بعض الدلالات ، بدورنا نتساءل الا يعدو ان يكون العنوان مجرد مثل شعبي متداول ؟ أو يدخل في إطار الأراء الشائعة ؟ هل بالإمكان أن تتولد الحقيقة عن الحق ؟ كيف ذلك؟ كل هذه الإسئلة سنحاول محاورة النص من خلالها
3–قراءة النص:
مذ الخريف الأول
تحديدا بعد سقوط الطربوش الأول
من رأس الشجرة المكممة بطلع الغبار
وسنبلتي الطيبة ملقاة على آخر النهار
لا هي ظللت غنائي ولا جعلته للطير يمر
الخريف هنا قد يعني فصلا من فصول السنة أو الحياة البيولوجية(الإحيائية) الشيخوخة أو الخريف العربي (الربيع العربي كما سمي) أو ما اصطلح عليه عالميا “بربيع أو بخريف براغ” او الثورات الملونة التي همت بعض الدول الشيوعية السابقة واتخدت لها كرموز ألوان واسماء ازهار وورود عديدة والنص يحدد أن الأمر يتعلق بالخريف الأول أي الذي يتزامن مع سقوط الطربوش المضيء من رأس الشجرة قد يكون رأسا كبيرا من السياسيين أوالحكام أو الأشخاص النافذين وللطربوش تاريخيا له حكاية في مواجهة القبعة ”الإفرنجية ” وصار رمزا في احيان كثيرة للقومية العربية وكان ”محمد علي باشا” مؤسس مصر الحديثة هو من استبدل العمامة بالطربوش ولبسه أيضا الزعيم سعد زغلول وبالتالي فله رمزية عالية في الاستقلال والتحرر والنهضة .. والرأس يعني أنه كان في أعلى مقام والشجرة قد ترمز الى بلد ، وطن مجتمع ، دولة ، شعب أو أمة والتي كان يقودها ويتزعمها صاحب الطربوش المضيء أو الفكر المتنور لكن واقع الحال حاليا تغير بعد السقوط لتصبح الشجرة ( الشعب،الأمة أوالمجتمع…) مكممة لاتستطيع الكلام أو التعبير بفعل ماتراكم على الأفواه من غباريمنع الكلام و يحجب رؤية حقيقة الأمور اما جهلا أو لزوم الصمت بفعل القمع ، منذ هذه الفترة وسنبلة الشاعر الطيبة ملقاة إلى آخر النهار وهي ترمز الى الخير المادي والمعنوي والى الاخصاب والزرع والإنبات ومايمكن ان يجنى من وراءها من خيرعميم لكنها تظل ملقاة إلى اخر النهار ليبتلعها الظلام وبالتالي لن تحضى بالإهتمام و العناية المطلوبة ولن يكون لها أي تأثير فلا هي كانت سندا وعونا وخلفية لغناءه أي كلامه ، شعره ، فنه أو فكره ولاسمحت بمروره إلى الطير ليحلق غناءه عاليا في سماء الحرية وليكون بالإمكان وصوله إلى أذان الآخرين …
أبعد دوما عن حدود الاسئلة بمقدار(شماعة)
كيف اؤاخي السؤال بالجواب ؟!
النهار ليس ماهرا في لعبة الجدل
وظلي لايملك قطعة واحدة من حلوة المراوغة
سامحني يا إلهي واغفر فالنفس أمارة بالشعر
وأنت من حلل الميتة مضطر
هناك اسئلة مطروحة لكن الشاعر يبقي بينه وبينها مقدار شماعة(مانعلق عليه ثيابنا ) مما يعني أن الأسئلة تبقى معلقة بدون أجوبة ، ليلحقها السؤال بكيف اؤاخي السؤال بالجواب ؟؟ وكيف أداة استفهام تدل على الحال الذي يقول أن الأسئلة في واد والأجوبة في واد آخر وهناك بون شاسع بينهما و عدم موائمة ولذلك يتم اللجوء الى كيف؟! الأكثر عمقا ، ويقول أن الذي يحاور في النهار كاشفا كل أوراقه في واضحة الضوء لن يكون ماهرا في الجدل الذي يواجه فيه خصما أكثر غموضا وذهاء ، ومما زاد الطين بلة ان ما يعتمد عليه كظل يسنده ويدعمه في الحوار لا يملك ولا قطعة واحدة من حلوة المراوغة تجعله أكثر قدرة على المناورة وتحقيق المكاسب ويجاري مستوى ذهاء الآخر ، وفي محاولة لتجاوز المفارقة وبطريقة ذكية يتوجه الى الله طالبا السماح فالنفس كما جاء في القرآن الكريم أمارة بالسوء : ”وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ” ( يوسف 53) لكن يتم تعويض السوء في الآية بكلمة “الشعر” ويذكر بأن الله حلل الميتة عملا بالقاعدة الفقهية ”الضرورات تبيح المحضورات ” لمن كان مضطرا . فأكل الميتة يجوز لمن لم يجد غيرها وخشي من الموت جوعا . باستعمال المطابقة يحلل الشاعر لنفسه قول الشعر فالنفس أمارة بالشعر ، والخلاصة أن ما يقال من شعر صادق معبر بكل وضوح في واضحة النهار لا يراوغ لا يجامل لايحابي لا انتماءا ايديولوجيا او قبليا له … ، سينظر له حتما كسوء وكميتة وكعنصر تهديد لمصلحة شريحة معينة ومهما كانت الأحوال فالشاعر عليه الأستمرار وإيجاد المخارج الشرعية والقانونية واللغوية لقول اشعاره
أول امبارح الطازج
كانت هشاشتي جائعة جدا
قررت أخيرا شواء آخر قناديلي الفطيس
فتحت باب العين واللسان
وسألت النهار هل تبقى من رمادي حطب ؟
قدفتني بشرر عقيم ثم أغلقت علي الشفتين
لا جدوى من النزف المكلوم على الهوامش
الحوار مع المرايا بدون شمس يفقد الظل توازنه
في الإمس القريب جدا كان يشعر بهشاشته جائعة قد تعني ضعف عاطفته اتجاه الآخرين ، حبه لهم ، انسانيته ، احساسه بالمعانات ، حبه لمجتمعه ووطنه وأمته استعداده للمشاركة والمساهمة في تغيير الوضع … كل هذا جعله يتخد قرار اعداد وجبة من ضوء بشواء آخر قناديله الفطيس أي مصدر الضوء الوحيد والأضخم المتبقي لديه والوجبة هنا ستكون كلاما من ضوء على الأرجح شعرا سيتلوه فتح باب العينين لكي تُرى الأمور على حقيقتها وفتح باب اللسان ليتكلم متوجها إلى النهار الى الفكر المنير الى من يفهم ويريد ان يستمع الى الضوء متسائلا -وهو الذي احرق عن آخره وتحول إلى رماد- هل تبقى من رماده حطب ؟؟!! هل بقي هناك مايرمم به الوضع الراهن ؟؟! تقول الاية الكريمة :”وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم “(يس 78) أو اسطورة العنقاء التي تنبعث أو تجدد خلقها من رمادها…هنا نوع من البحث عن الانبعاث ( البعث ) أو التجدد أو ولادة جديدة لتجاوز الوضع الجد مأزوم و الذي لا حلول بادية في الأفق له و بالتالي كان جواب الهشاشة أن أغلقت شفتيها ” ادرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح ” فلا جدوى من الجروح النازفة على الهوامش فالحوار مع المرايا أي مايعكسه الواقع أو الفكر أو الوضع القائم بدون رؤية واضحة تنويرية تُفْقِد ما هو مكتسب وما يسند ويدعم التوازن ولا يتحقق من ورائها لا توافق و لا تفاهم و لا تقدم كما تقتضي أهداف الحوار …
لي مع أصابعي مآرب أخرى
في الليل أتركها في رأسي
تعد جروح الشجرة العجوز
في الصباح التائه تتهيأ بالقصائد الشهية
لضيافة الأرقام الجديدة
تعصر الشعر بالمجاز
وتصب الشوك في أقدام دمائي
على مائدة الريح
هنا يتحدث الشاعر عن أصابعه التي يكتب بها فهو بستعملها لقضاء حاجات متعددة وله مآرب أخرى وهنا نلا حظ تناصا مرة أخرى مع القرءان الكريم : “قال هي عصاي اتوكا عليها واهش بها على غنمي ولي فيها مارب اخرى ” (طه 18)
قد تكون هذه المآرب الكتابة وطرح الافكار والتأمل ..ففي الليل تترك الأصابع في الرأس في المركز العصبي العضو المفكر او مقر العقل والتفكير وهي تقوم في هذه الحالة بإحصاء وعد الجروح التي لحقت الشجرة ( المجتمع الشعب الامة …) في الصباح التائه الذي لا هدف من ورائه او لا التزام فيه وقد يعني الصباح زمنا أو فكرا مشرقا او أملا أو افقا يتراءى أو رؤية قابلة للتحقيق تقوم الأصابع بتلقي نتائج العد على شكل أرقام جديدة فتلجأ إلى طاحونة المجاز لتعصرها شعرا أي لتنتج شعرا ينضح بالمجاز الدلالي الاكثر تعبيرا وانخراطا وتقوم بسكب الأشواك شعرا يدمي القلب و يهتز له الفكر في اقدام دمائه أي فيما يشد ويعضد انتماءه اتجاه الشجرة التي ينتمي اليها مما يجعل أقدامه في حركتها في هذا الاتجاه مشلولة وراكبة مائدة الريح (استعمل الشاعر هنا كلمة الريح التي تكون عامة قوية عكس الرياح ) وبالتالي فستعصف بكل حركة اتجاه خلق روابط تعاون وتآزر مع الآخرين …
شرق لذيذ متبل ببهار البحار والأنهار والأشجار
مشوي على فحم الليل البارد
وقنينة ابار معتقة في حضيرة البقر
سافتح صهريج الفراغ على آخر مدينة
اغسل الاثر القديم بالمحو والغرق
مذ براءة احلامي المطاطية
علمني الدخان طقوس الطاعةوفقه الضعفاء
وكيف اقدم المدن الشهية للكواكب الضالة
فالشرق مطيّبا مهيّأ بتوابل البحار والأنهار والأشجار تجعله لذيذا عند المتربصين به ، فهو غني بكنوزه وموارده الطبيعية اضافة إلى بحاره وأنهاره وأشجاره التي يمكن اعتبارها بمتابة توابل تزيد هذه الموارد والمخزونات الطبيعية ثراء وغنى اضافة الى ان الشرق مشوي على فحم الليل البارد أي انه بيع في ليلة باردة لا مزايدات فيها ولا شهود ولا نقاش ولا حوار ليلة ظلامها دامس فهي شتوية وبالتالي ستكون الأثمان اقل من بخسة على مائدة حول قنينة آبار معتقة قد يجرنا الخيال الجامح الى الاعتقاد بانها قنينة خمر ”قد شبه لنا ذلك” ”واشتبه علينا الأمر” لكن الأصح انها قنينة أبار وهي أغلب الظن أبار بترول تشبه الخمر في اللون المائل الى السواد والغريب في الأمر أنها معتقة في حضيرة البقر أي عند أناس قد يجهلون قيمة ما حباهم الله به من خيرات فلا يمنحونها الاحترام الكافي ولايستفيدون منها كما يجب فيرمونها تحت حوافر (فراقش) البقر مع الفضلات … يقول الشاعر أنه سيفتح صهريج الفراغ على آخر مدينة والفراغ هنا ما يحصل في المجتمع من تهميش وندرة العمل والعناية الصحية والتعليم والترفيه وخواء الجيب والتراجع على كل المستويات الثقافية والعلمية… كل هذا يشكل فراغا هائلا ان فتح له المجال فلسوف يغسل أثر القديم ما تعرض له الناس وبقي له تاثير مباشر او محفوظا في الذاكرة ، من فقر وقمع وتهميش وتسلط وهذا سيحدث بالمحو والغرق..
منذ ان كانت احلامه مطاطية و كانت الامال العريضة والأفق الواسع الذي لايعرف له حد معين ، علمه الدخان ما يصدر عن النار المشتعلة يقول المثل “لا دخان بدون نار ” وقد يرمز الى القمع الغير المباشر اخذا العبرة من الآخر المقموع وما يتعرض له من تنكيل وتعذيب جراء مواقفه او افعاله ..علمه الدخان طاعة السلطة وأولياء الأمر في المجتمع والائمة و فقه الضعفاء الذي يمجد الضعف والامتثال والاذعان والاستعباد ويفسر التعاليم الدينية بطريقة تقنع الفقير والضعيف بحالتهم بل وبكونها افضل الحالات المحببة عند الله فالضعفاء والفقراء اشد اخلاصا لله لخلو قلوبهم من التعلق بالدنيا ولصفاء ضمائرهم وهم سبب استمرار الارزاق من الله تعالى وقد جاء في بعض الاحاديث:”هل تنصرون وترزقون الا بضعفائكم” (اخرجه البخاري) وهذا يجعل الضعفاء راضبن عن وضعهم لا يطالبون بحقوقهم المشروعة… وتعلم أيضا كيف يقدم أفضل وأرقى المدن إلى الكواكب الضالة ، سواء كانت هذه الكواكب محلية أو قادمة من مكان بعيد من قارة أخرى أو بلد آخر فالكوكب الضال هو من خرج عن مساره وتاه في الفضاء سواء كان الفضاء السياسي بالنسبة المحليين أو القادمين من أماكن بعيدة خارج نفودهم الجغرافية جاؤوا للسيطرة على خيرات البلدان المشرقية والتي تقدم لهم على شكل مدن شهية كما تقدم الأكلات في المطاعم..
الشجرة تخرج من عيني تطل على عيني!
أيتها المثقلة بالإنطفاءات والمر والخيبات
في أي شيء يحملق جفافك العاري ؟
أنا حجر وموسى رحل
وليس في المدى عيسى
لست الذي سيقف على باب المقابر القديمة
ينادي الطرابيش ويعود إلى مسكن رأسك
الشجرة كما اسلف الذكر قد تمثل المجتمع الفكر الأصيل الوطن الأمة …تخرج من عيني الشاعر فقد كانت نصب نظره وتفكيره ومن ادمانه على ذلك خرجت لتطل على عينيه ، فهو الشجرة.. والشجرة هو ..حصل اتحاد بينهما فصارت تعكس مرآة ذاته و ظهرت للعيان في شعره حيث يناديها بأيتها المثقلة بالانطفاءات والمر والخيبات كانه ينادي نفسه .. فالشجرة طفح كيلها بما تتعرض له من احباطات وواقع مر ومرير وخيبات آمل وانكسارات وتهميش وكل ما يضعف ويطفىء هبّة الهمم لتغيير الواقع وامام هذا الوضع المزري يطرح السؤال في أي شيء يحملق جفافك العاري ؟ ماذا تنتظرين مني ؟ وهل لازال هناك باب للأمل مفتوحا لإنقاذك مما تعيشين فيه من ويلات وظلم وحقارة وجفاف عاري؟ ..
و يشبه الشاعر نفسه بحجر أي انه لن يبرح مكانه ولن يقوم باي فعل يكون له تاثير فموسى قد رحل ورحلت معه زمن المعجزات بل حتى عودة عيسى ( المسيح )ليست في المدى القريب الى متى سيبقى الوضع على حاله في انتظار حدوث المعجزات . هي دعوة لشطب المعجزات من سجل الإنتظارات . ويشير الشاعر الى انه ليس من الذين سيقفون على باب المقابر القديمة يتذكرون الماضي ويعيشون عليه ويدفنون أحياءا في تاريخ صار نسيا منسيا و غير مجدي لاخراج الشجرة مما هي فيه ..ولن ينادي الطرابيش ، اولائك العظماء أو الحكام الذين كانوا فيما مضى قد انقذوا الشجرة ويعود إلى مسكن رأس الشجرة راضيا على ما عليه الأوضاع. فهو يرفض رفضا قاطعا الإستسلام للأمر الواقع أو ما آلت اليه الأوضاع و الركون لماض دفين أو الإيمان بالمعجزات …
4–خاتمة :
نص قوي ، عميق قُدّم في حلة موغلة في الغموض والمجاز وهو كما يقول الشاعر نفسه ”يعصر الشعر بالمجاز” ، ليس ثمة سر واحد أو معنى واحد ادعي كقارىء متواضع أنني اقتنصته وبذلك توصلت إلى امتلاك حقيقته ومعناه بل ثمة معان متعددة ومنظورات مختلفة فالنص الذي نحن بصدده يمكن وصفه ”عملا مفتوحا” على حد تعبير ”امبرطو ايكو ” فهو مفتوح على عوالم أخرى يصعب حصرها أو حتى توقعها …
ماجاء في قراءتي المتواضعة يمكن اعتباره معنى لما تشكل في ذهني بعد استماعي لرنين الصور الشعرية لفترة كافية من الوقت ،تركت لها الباب مشرعا لتتخلل رؤيتي للعالم وتجربتي الحياتية ومعرفتي المتواضعة جدا