شعرية التناص في ديوان (هذا غبار دمي) للشاعر حيدر عبد الخضر
أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
يعزو كثير من النقاد المعاصرين السبب في ظهور مصطلح التناص,واستعماله في الخطاب النقدي المعاصر إلى تأثير المدرسة البنيوية,وما فرضته من قيود صارمة على دراسة النص الأدبي ,إذ رفضت- في تناولها للنصوص الأدبية-كل أثر يشير إلى المبدع,وآرائه,ورؤاه الفكرية,وأكدت أن النص الأدبي بناء لغوي قائم بذاته,ويفسر نفسه بنفسه, ومن ثم فهو لا يحتاج إلى مؤثرات خارجية تقحم فيه إقحاما ,فنظرية التناصية- في رأي هؤلاء النقاد- قامت لمواجهة مغالاة البنيوية,والتخفيف من تأثيرها,من خلال إفساح المجال أمام التيارات النقدية الجديدة,لكي تأخذ دورها في الساحة النقدية ,وسواء أكانت البنيوية السبب الرئيس في ظهور مصطلح التناص أم لا,فان هذا المصطلح قد ظهر إلى الوجود فعلا على يد جوليا كرستيفا في بحوثها التي كتبتها بين عامي(1966 -1967),ومن ثم تبنته جماعة(تيل كيل)النقدية,وانتشر بعد ذلك في المحافل النقدية بسرعة كبيرة,واستعملته مدارس كثيرة: تفكيكية,وبنيوية,وسيميولوجية,وأسلوبية,وتفسيرية [1].
أن الدلالة الحديثة للنص لم تكن غائبة كليا في المعجم العري,وهي تلتقي أيضا مع دلالته اللاتينية التي تشير إلى معنى بلوغ الغاية,والاكتمال في الصنع,وهذا المعنى لابد أن ينتقل إلى النص الأدبي الذي يمتاز عن النص العادي[2],وثمة تعريفات متعددة لمصطلح النص تعكس توجهات أصحابها[3] فلقد عرفه بول ريكور لنطلق كلمة نص على كل خطاب تم تثبيته بوساطة الكتابة[4],أما جوليا كريستيفا فلقد عرفت النص تعريفا جامعا إذ قالت:نعرف النص بأنه جهاز نقل لساني يعيد توزيع نظام اللغة,واضعا الحديث التواصلي,نقصد المعلومات المباشرة في علاقة مع ملفوظات مختلفة سابقة أو متزامنة[5],ويعرفه رولان بارت :انه السطح الظاهري للنتاج الأدبي,نسيج الكلمات المنظومة في التأليف,والمنسقة بحيث تفرض شكلا ثابتا,ووحيدا ما استطاعت إلى ذلك سبيلا[6],ويورد محمد مفتاح تعريفات عدة للنص بحسب توجهات معرفية,ومنهاجية مختلفة,فهنالك التعريف البنيوي,وتعريف اجتماعيات الأدب,والتعريف النفساني الدلالي,وتعريف اتجاه الخطاب ليخلص إلى تعريف واحد في النهاية[7],ومن استنطاق نصوص المجموعة الشعرية (هذا غبار دمي)للشاعر حيدر عبد الخضر نجدها تحتوي على التناص بأنواعه المختلفة,وسوف نبين ذلك :
1- الاقتباس:فالاقتباس في النقد العربي القديم,نوع من المحسنات اللفظية,الهدف منه إضفاء نوع من القداسة على النصوص المقتبسة,وإظهار براعة الشاعر,ومقدرته,وقد عرفه شهاب الدين الحلبي بقوله:هو أن يضمن الكلام شيئا من القرآن,أو الحديث,ولا ينبه عليه للعلم به[8],وكانت البدايات الأولى للاقتباس صادرة عن عفوية,وبساطة,وبعيدة عن التكلف,والصنعة,فقد كانت وسيلة تعبيرية للتأثير في المتلقي,ولكن في عصور متأخرة أصبح الاقتباس حلية تزيينية بالغ الشعراء في إثقال أشعارهم بها[9],وفي المجموعة الشعرية (هذا غبار دمي) نجد شاعرنا اعتمد على التعبير بوساطة القرآن الكريم,أو الحديث الشريف,أو خطب نهج البلاغة للجمال,والإبداع,فنراه يقول:
يسألونك عن الساعة أيان مرساها
أرجو إلا تنسف
ماتبقى
من بلادة
الانتظار
لتقولها بلغة
مستهجنة
إنما علمها عند..
لنعود إلى الأسرة
ورقابنا
مثقلة بالانحناء[10]
ومن الجلي أن الشاعر حيدر عبد الخضر هنا قد اقتبس كثيرا من الألفاظ,والجمل القرآنية مضمنا إياها مقطوعته,وقد تنوعت طريقة اقتباسه لها,فهو تارة ينقل بعض الجمل القرآنية نقلا حرفيا,وذلك كقوله{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } [11], فهذه الجملة مأخوذة بحرفيتها من القرآن الكريم,وتارة يقتبس بعض الجمل القرآنية,بعد أن يحور فيها تحويرا بسيطا,إذ وردت في قوله تعالى:(( قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ 0000))[12],وينظر إلى الاقتباس على انه شكل من أشكال التناص,واستلهام,وامتصاص للتراث,وتفاعل معه,إن نظرية التكرارية التي يلغي ديريدا وجود حدود بين نص ,وآخر تقوم على مبدأ الاقتباس,ومن ثم التناص[13],إن كل كلمة في النص الأدبي هي سابقة للنص في وجودها,كما أنها قابلة للانتقال إلى نص آخر حاملة معها تاريخها القديم المكتسب[14] ,ويعد الاقتباس آلية تكثيفية يتم من خلالها استحضار نصوص دينية معروفة عن طريق المتلقي الذي يقرأ جزءا منها,ويتم استذكارها كاملة لأنها معروفة,وليس هناك أدنى حاجة لذكرها كاملة في النص[15],كما في قصيدة(حرب)للشاعر حيدر عبد الخضر,ولاسيما في المقطع ا لآتي:
رمال الوحدة
قبل أن يتم نشيد الغياب
فتقمصها أخي
وانه ليعلم أن محلي منها محل000
وحاول أن يقمط
حكمة والدي
فطفق مسحا بالسواتر
والإنفاق
وعندما جاء دوري
هرعت إلى مدن بأكملها
لأنسج لها حبلا من مسد[16]
إن الاقتباس جرى في (حبلا من مسد)وكذلك في (وانه ليعلم أن محلي منها محل) من خلال العبارة الأولى التي وردت في القرآن الكريم والتي ذكرت امرأة أبي لهب((في جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ))[17],يستحضر القارئ ليس الآية,والسورة كاملة فحسب,وإنما يستحضر معها كل الأحداث التي جرت في ذلك العصر0ولذا فان السياق يتداخل عبر الاقتباسات في القصيدة إذ نجد الشاعر اقتبس بعض كلام أمير البلاغة,وسيد الفصاحة الأمام علي ابن أبي طالب عليه السلام في خطبته المعروفة بالشقشقية في قوله:((وانه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى))[18]0
2- التضمين:وأما التضمين فليس صورة من صور الاقتباس-على صعيد العلاقات التناصية-وان كان النقد العربي القديم قد فرق بينهما,من حيث انصراف كل منهما,إذ ينصرف الاقتباس إلى القرآن الكريم,والحديث النبوي,في حين ينصرف التضمين إلى الشعر عموما[19],وقد عرفه ابن رشيق بقوله: فأما التضمين فهو قصدك إلى البيت من الشعر أو القسيم,فتاتي به في آخر شعرك,أو في وسطه كالمتمثل[20],وأوضح تعريف للتضمين,واشمله نجده لدى ابن أبي الأصبع المصري فهو عنده:أن يضمن المتكلم كلامه كلمة من بيت,أو من آية,أو معنى مجردا من كلام,أو مثلا سائرا,أو جملة مفيدة,أو فقرة من كلمة[21],والتضمين كما هو معروف هو الاستشهاد ببيت,أو أبيات عدة وهو من المداخل التي عرج المتناصون عليها,وذلك أن يستعير شاعر شطرا أو بيتا أو ربما أكثر من شاعر آخر يدرجه في بيت أو قصيدة له[22],وحتى يصبح الأمر مشروعا على الشاعر الإشارة إلى ذلك التضمين بوضع علامات تنصيص, أو أن يشير في هوامشه إلى مصدر المقتطف الذي ضمن منه قصيدته بحيث يغدو النص المضمن متداخلا مع النص الأصلي وهذا معنى التناص بصورته الحديثة[23],ولنقرأ لحيدر عبد الخضر قصيدته (بوح):وفي بوحه العلني يحطم حاجز التردد الذي انتاب هاملت,ويطمئن سارتر,بقوله:
قولوا لــ(هاملت)
إنني قررت ألا أكون
قولوا لــ(سارتر)
أن قصائدي هي
الجحيم
الذي قادني إلى
(دانتي)
وألبسني معطف
البهجة الزائفة
قولوا لــ(مايكوفسكي)
إذا كان يعتقد
بأنه (غيمة في بنطلون)[24]
يقول الأستاذ حيدر عبد ا لرضا إنها ليست الجحيم ,لكنها تحاكي الواقع,هذه هي رؤية الشاعر الحلمية للحرب,تتبعها خصيصة أفعال علاماتية,تنطوي على مساحات أشاعها الشاعر,سحرا,وجمالا,في تدوين أدوات المقابل الصوري لفضاء دلالة الملفوظ, أننا نتوقف إزاء صياغات موضوعة تسويغ أفعال خطاب الصورة,لنرى ما وراء هذا الانزواء,والتقوقع داخل ذاتية الموصوف المباشر,فالنص في هذه المقطعية نجده يتشكل وفق حالة تأسيس مخالفة,وأجواء قصيدة التناص.[25],ونراه يقول :
فها أنذا نشيد عاطل
في رئة المدينة
قولوا 00 لروحي الطرية
إن وساوسها
أحدثت عطبا في جدار المعدة
قولوا لــ(منذر عبد الحر)00
خذ شهقة الصباح
ورايات الفتنة
ودع00 الرقصة آمنة
فإقدامه المطفأة
بالخطيئة
ما زالت تهول في
أحشائي[26]
وإذا كانت الذات لا ترى غير خراب مزمن يحيط بها ,بالآخرين,فان صورة هذا الخراب,ترتد إلى الذات مرة أخرى,وتنعكس لتؤدي دورها في الجسد,وتحت ضغط الألم,لا يجد الشاعر غير أن يبوح بمواجعه تلك,لعله يجد من يستجيب له[27],ونجد التكرار واضحا في المقطع الشعري مثل كلمة(قولوا)إذ كررها الشاعر أكثر من خمس مرات, وكذلك نجد التناقض في النص (الجحيم,البهجة,), وكذلك تركيز الشاعر على الرموز الآتية:(هاملت,سارتر,دانتي, مايكوفسكي, منذر عبد الحر) فقد أجاد الشاعر في استعمال التناص مع هذه الأسماء تارة,والقناع مع الشخصية تارة اخرى.
هاملت….نكون أو لانكون
مايكوفسكي…غيمة في بنطلون
منذر عبد الحر… تمرين في النسيان
لان المصطلح الحديث للقناع أطلقت عليه د. بشرى موسى تسمية قصيدة الشخصية في كتابها لعبة المتاهة في التأويل ومقالات أخرى,وقد تفردت بهذا الرأي دون جميع النقاد,وقد انصهرت قصيدة الشاعر حيدر عبد الخضر مع الشخصيات التي ذكرها في قصيدته أنفة الذكر.
المراجع:
[1] التناص بين النظرية والتطبيق شعر البياتي نموذجا:د0 أحمد طعمه حلبي:13 0
[2] ينظر النص بوصفه إشكالية راهنة في النقد الحديث:فاضل ثامر:16 0
[3] ينظر التناص في شعر الرواد:أحمد ناهم:11 0
[4] النص والتأويل:بول ريكور,ت:منصف عبد الحق:37 0
[5] علم النص جوليا كريستفيا:ت فريد الزاهي:21 0
[6] نظرية النص,رولان بارت,ت محمد خيري ألبقاعي:89 0
[7] ينظر التناص في شعر الرواد:11 0
[8] حسن التوسل إلى صناعة الترسل:شهاب الدين محمود,تحقيق أكرم عثمان:323 0
[9] ينظر التناص بين النظرية والتطبيق:46 0
[10] هذا غبار دمي:37 0
[11] سورة النازعات:الآية:42 0
[12] سورة الأعراف:الآية:187 0
[13] الخطيئة والتفكير:عبد الله الغذامي:55 0
[14] ينظر التناص في معارضات البارودي:117 0
[15] ينظر التناص في شعر الرواد:100 0
[16] هذا غبار دمي:57 0
[17] سورة المسد:الآية:5 0
[18] نهج البلاغة:67 0
[19] ينظر التناص بين النظرية والتطبيق:49 0
[20] العمدة:لابن رشيق:2/702 0
[21] تحرير التحبير:ابن أبي الأصبع المصري:تحقيق حنفي محمد:140 0
[22] متاهة التناص:د0 جلال الخياط:53 0
[23] متاهة النص:53 0
[24] هذا غبار دمي:89 0
[25] ينظر جريدة الصباح:11 0
[26] هذا غبار دمي:90 0
[27] ينظر مقال الأستاذ حسين الابهر:11 0