بائعة الفاكهة (٢)

رضا راشد | كاتب مصري


وتأبى بائعة الفاكهة إلا أن تلهم – بنقاء فطرتها – عقولنا بما يوازى الدر مكانةً، ويضاهي اللؤلؤ نفاسةً .

    فبعد أن رأيتها – كما أسلفت – تهز عناقيد العنب، حتى تَسّاقَطَ حباتُه الضامرة ،ساءلت صديقي الذي كان يجلس بجانبي في السيارة
ترى: ما أشد ما يعانيه تاجر الفاكهة في حياته؟
فقال: لعل أشد ما يعانيه تجار الفاكهة أنهم يخسرون كثيرا ؛ لكثرة ما يفسد من فواكههم يوميا .
فقلت: وكذلك البقالة وغيرها من أنواع التجارات تنطوي على نسبة فَقْدٍ قد تكثر أو تقل..فليس في هذا المجال تكون المعاناة .

ولكن المعاناة التى تعترى تجار الفاكهة -في رأيي- إنما تكون في مجاهدتهم شهوات أنفسهم؛ حمايةً لرؤوس أموالهم واستزادةً لأرباحهم، وذلك أن الفاكهة إنما تراود بحسن منظرها عيون التجار ، وتراود بطيب رائحتها أنوفهم، وتراود بحلو مذاقها ألسنتهم، وأولائكم رسل الشهوة للنفس ومنافذ الفتنة للقلب؛ فلا تملك النفوس إلا أن تنجذب لها انجذاب ذرات الحديد للمغناطيس.

ومالها ألا تنجذب، وللفاكهة زينتها بقوتها الجاذبة، وللنفس شهواتهاوغرائزها المستثارة بما كان من حلو المنظر وطيب الرائحة وحلاوة المذاق؟!

ولو أن كل تاجر فاكهة أطاع نفسه وانقاد لشهواتها فانقض على فاكهته يلتهمها إشباعا لغرائزه وإرواء لشهواته= لَمَا مضى شهر أو بعض شهر إلا وقد نفد ماله، وكسدت تجارته، فينظر إلى ذات يده فلا يجد إلا قبض الريح…وإذ ذاك تكون الحسرة الباقية الدائمة ثمنا للذة عاجلة ذاهبة .ويكأن كل تاجر فاكهة قد تراءت له هذه النهاية الأليمة، فآثر إلا أن ينتصر على شهواته ويكبح جماح غرائزه؛ تثميرا لماله.

إن كل بائع فاكهة يتراءى له طريقان: طريق مبدؤه لذة عاجلة تعقبه حسرة دائمة؛ وطريق آخر مبدؤه معاناة مرارة الحرمان ولكن منتهاه الربح الدائم..فلم يكن أمامهم من خيار إلا أن يسلكوا الطريق الثاني، وكأن فاجعة الخسارة في النهاية قد أعانتهم على الاستعلاء على لذة عاجلة في النهاية.

ولا تحسبن التاجر إنما نجح في الانتصار على شهوات نفسه من الوهلة الأولى، وإنما كابد كثيرا في حرب سجال بينه وبين نفسه: تنتصر عليه مرة، وينتصر عليها أخرى..حتى دانت له نفسه بعد لأي وانقادت له شهواته بعد طول مكابدة .

هكذا حسم تجار الفاكهة أمرهم بمغالبة شهواتهم: حرصا على مالهم؛ وتربحا من تجارتهم .

أفليس الأحرى بأولى الألباب أن يتعاملوا مع زينة الدنيا تعامل التجار مع الفاكهة. فها هي ذي الدنيا: حلوة خضرة، تتزين لعشاقها بكل أنواع الزينة، فهي تتراءى لهم في مرأى كل عين، ومشم كل أنف، ومسمع كل أذن، وملمس كل يد، ومذاق كل لسان. ولا تزال بالعاقل الأريب وبالذكي الفطن اللبيب حتى تغلبه على عقله، فإذا هو منقاد لها بائع بدينه ودنياه ثمنا قليلا.. وهؤلاء هم من أعمتهم اللذة العاجلة عن الحسرة الآجلة فباؤوا بالخسران المبين في الدنيا والآخرة .
ولكن هناك آخرين -وقليل ما هم- كانوا كتجار الفاكهة: رأوا في إشباع شهواتهم عاجلا حرمانا باقيا ودائما، فاستعلَوْا على غرائزهم فكانوا من المفلحين .

فهل أن لنا أن نتعامل مع الدنيا تعامل تجار الفاكهة مع فواكههم تغاضيا عنها استثمارا لرؤوس أموالنا؟
ذلك ما كنا ولا زلنا نبغ .

ويبقى الشكر موصولا لبائعة الفاكهة أن أثارت في نفوسنا هذه الأفكار دون أن تدرى أو تشعر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى