رواية: ” أسد أم جفيل الأعرج ” (6)

طارق المأمون | السودان

أبي و أستاذ آدم و الحاج مرحوم و شيخ القرية و مجموعة من كبار أهل القرية جلسوا مع وفد من الحكومة الذي جاء في ثلاث عربات “كومر” .. تعلوا أصواتهم بين حين و آخر ثم تهدأ من جديد…
نقف نحن خارج القطية الكبيرة نتصنت الى ما يدور فلما يكثر عددنا بحيث نحجب الهواء الداخل أو حين يعلوا صوتنا على صوت من بالداخل ينتهرنا أحد الكبار طاردا لنا.. و ما فهمناه من الحديث أن الذين جاؤوا من الحكومة إنما جاؤوا لغرضين أولهما أنهم جاؤوا ليطمئنوا على أهل هذه القرية من هجوم الأسود الأخير و ليطمئنوا على أن لا خسائر في الأرواح و الممتلكات كبيرة عارضين مواساتهم و خدمتهم في أخذ جرحى الهجوم الى مشافي أكبر من مشفى أستاذ آدم …, و الغرض الثاني هو إقناع أهل القرية بترك هذه القرية الى قرية أكثر أمنا و أرحب منزلا و أنفع خدمات .. قرية ملحقة بمدينة كبيرة …مياهها متوفرة و مدارسها مبنية و سوقها عامر و مشافيها مؤهلة و طرقها معبدة , هي بلا ريب خير من قريتنا هذه في رأيهم.
ناداني كبير الوفد : تعال يا ولد
فلما وقفت أمامه سألني و عينه على شيخ القرية الذي كان يعلو صوته قبله: هل تقرأ فلما هززت رأسي بالإيجاب : أين تدرس
– أدرس مع أستاذ آدم في ذلك المبنى .. و أشرت إليه
– في أي صف
تدخل أستاذ آدم :
– أنا هنا أدرسهم جميعا في فصل واحد أعلمهم القرآن و بعض الحساب و شيء من العلوم
يلتفت ألى شيخ القرية ممسكا بكتفي : الأولاد سيكونون ضحية بقائكم هنا .. ليس معقولا أن يدرسوا بهذه الطريقة بينما تتوفر الخدمات و التعليم بصورة أحسن لو ذهبتم إليه ..
انفض سامر الإجتماع بلا نتيجة غير غضب الطرفين و القرية القابعة بين مجاري مياه الخريف الكثيرة تحتوشها الأشجار و تحيط بها من كل جانب و بكثافة من ناحيتها الشرقية لا تزال تتوجع من هجمة الأسود الأخيرة و تجاهل الحكومة و طلبها لهم بترك منازلهم القديمة التي توارثوها من أزمان ليست بالقريبة :
– هكذا إذن نترك بيوتنا حتى لا تهاجمنا الأسود ..
– قالوا إن القرية الجنبنا قرروا الاستجابة لطلب الحكومة وأنهم بدأوا بالرحيل فعلا … خافوا أن يحصل لهم ما حصل لنا..
– عاقلون …السعيد يشوف جر الشوك في جلد أخوه..
– يا أخوانا العاقل يعرف محل يضع راسه … الأسود طالبة شي من قريتنا القرى الجنبنا كلها آمنة و مستقرة مع إنها أقرب الى مراتع الحيوانات من قريتنا لكنها هجمتنا أكثر من ثلاث مرات نحن دون القرى التي حولنا…
– هل جننت ؟ الحيوانات ما بتفرز يحركها الجوع بتمشي من غير دليل غير ريحة فريستها ..قسمتكم هي من أتى بها إليكم ..
أخذ رأي يتبلور أن هذه الحيوانات مدفوعة لغاية يجهلها الجميع … و بدأ همس خبيث أعرف مصدره يومئ الى حادثة “أم جفيل” و هجوم الأسود الأخير مستشهدا بملاحظات بدأت تنتشر نارها سريعا , فالأسود كان بإمكانها أن تحدث خسائر كبيرة لو كان محركها الجوع فقط فقد كان متاحا لها بقر و أغنام و ضأن كثير كان يسرح بالقرب من مكان هجومها و لكنها لم تذهب في إتجاهه , و أنها لقيت أول من لقيت بنت “الناجي” ابنة العاشرة و هي تسرح و راء غنمها لكنها لم تهجم عليها و لا على غنمها , ثم أنها لم تهاجم الجموع التي تصدت لها كما أنها لم تهرب منهم أول رؤيتهم بل انتظرتهم حتى هاجموها و بدأوا يضربونها بالحجارة و الحراب و يشعلوا النار في وجهها .. حينها هاجمتهم و هربت …
قالت جدتي : هذه المخلوقات لا نعرف سرها …
قلت لها و انا مستلق على ظهري فوق حصير أمام باب بيتنا أنظر الى نجمة بعيدة : ألم يقولوا أنها تحمل أرواح آبائنا الأقدمين و أنها تجري بسرهم و تعيش قصتهم في عالمها ..
اتكأت جدتي في سريرها واضعة رأسها فوق كفها متخذة ساعدها و يدها كوسادة : العلم عند الله لكن سر هذه الوحوش هذه الأيام مدفون في قريتنا… و أنا أعرف مكانه.
كأني كنت أعلم ما تريد قوله لكني لم أحول نظري من نجمتي: أين مكانه؟
نظرت الى نجمتي التي أنظر اليها : في بيت “نعمة”
نظرت اليها فوجدتها تنظر الى حيث كنت أنظر: يا حبوبة كلامك هذا ملأ القرية كلها… لماذا لا تحبين “نعمة” و بناتها..
– أمي هي التي لا تحب أمها و رضعتنا كرهها من قبل أن يفطمونا .. كان أنا مفروض أكون “نعمة” و لا أختها الماتت زمان …
و لأني سمعت هذه القصة كثيرا
– ألا يقولون على هذه القسمة كل واحد يأخذ قسمته يا حبوبة
سكتت ثم استطردت:
– يا ولد أنت ما الذي عرفك بهذه الأمور
ثم تحدثت كمن يحدث نفسه : بركة الما بقيت “نعمة” … لا أقدر على مثل هذه الشقاء..
– كيف يمكن أن تكوني “نعمة” و أين هو “الشقاء”..
– الشقاء لما “نعمة” تشوف الأسد ياكل بناتها واحدة ورا الثانية أمام عينيها..
قمت من رقدتي و قد شدني حديثها : يا حبوبة –جدة- ما هذا الذي تقولينه؟
– الله يحيينا و نشوف …
جدتي تحمل حقدا قديما على “نعمة” و بناتها و تظن أنها كانت الأَوْلى بهذا الجمال منهن لو أن و الد “نعمة” تزوج أمها هكذا أخبرها “الودع” الذي ترميه تستكشف به الماضي و المستقبل و هكذا قصت لها أمها عن غرام استبيح لم يرعه “حمدان” حق رعايته رغم و عود الهوى و خلواته , فقد كانت أمها لا ينقصها من جمال أم “نعمة” شيء كثير كما تقول ….
– ما الذي سنراه يا جدتي
– سنرى عجبا … الأسود إن لم تأخذ ثأرها من بنت “حاكم ” نعمة” لن تترك القرية تهنأ براحة …
– اليوم ناس الحكومة جاؤوا و طلبوا أن نرحل من هذه القرية ..ناسنا كأنهم اقتنعوا شايف القرى التي حولنا تمتثل الى أمر الحكومة… لو رحلنا لربما كفينا القرية شر الأسود هكذا يقول أستاذ آدم..
ضحكت جدتي و هي تنظر الى أفق بعيد بعد أن استلقت تنظر الى نجمتي التي ازداد بريقها مع ازدياد الظلام … ثم تنهدت و قالت : البعيش بشوف….
تملكني إحساس غريب حرك لي بطني من هول ما قالت جدتي كيف يأكلهن الأسد .. و تذكرت قول “أم جفيل” : أنا بخنقه بي يدي ديل..أنا و أبوي “مهران”..
استطاعت جدتي نشر هذه الرؤية بقوة فانتشرت بين النساء ثم بين الرجال و ازدادت بتأويلات أخرى المنطقي فيها أقل من الخيالي… يقول بعضهم أن الأسود جاءت لتثأر لهزيمة كبيرهم من “أم جفيل” في يوم الهجوم المشهور عند “الحفير الصباحي” فقبيلة الأسود كالثعابين لا ترضى الهزيمة و لا تنسى من هزمها و لا تقر له بنصر … فيرد بعض مناصريها و هم كثر معظمهم من الشباب المفتونين “بسعدية “: إن هذا الهجوم محسوب ضمن الهجمات الثلاث المذكورة و الهجمة الأولى هي هجوم على قطيع الحاج “مرحوم” و الأخيرة هي هذه فالأمر لا يعدو أن يكون جوع تملك الغابة إثر هجرة القطعان جنوبا خلف المطر فوجدت الأسود أن الأرض خلت ممن يكون لها طعاما فاستهدفت القرى لسهولة اصطياد الأبقار و الشياه المزروبة و المدجنة التي لم تعتد على فرار أو دفاع..
بعضهم يقول أن هذا البيت أي بيت آل “نعمة ” أصابته لعنة قديمة انتقلت من أمها لا من أبيها “حمدان” إذ انتكس عمل سحر أسود قامت به أمها لخطف قلب أبيها لكونها لم تلتزم بشروط الساحر الصعبة, فارتد العمل على بيتها .. و استدلوا بقلة انجاب هذا البيت بل و تأخره في ذلك الى أن تزوج “حمدان” بأخرى لكنه لم ينجب منها و انجب اثنتين من أم “نعمة” إحداهن “نعمة” و الثانية أختها التي ماتت أو هكذا يظن إذ خرجت ذات ورود لجلب الماء و لم تعد ويقال أن الجن خطفها ثمنا لما التزمت به أمها و لم تف به .. و إني لأرى يد جدتي في هذا القول واضحة لا تورية فيها.. و لكن من حضر الماضي أنكر كثيرا مما تزعمه هذه الرؤية .. فإن والد “نعمة” “حمدان” اشتهر منذ صغره بحبه لأم “نعمة” و كان زواجه منها تتويجا لهذا الحب فرح به كل ذويهما فهما ابناء عمومة يجمعهما دم واحد قبل قلبيهما الذين يجري فيهما, و لولا إلحاح أم “حمدان” عليه أن يتزوج – بعد أن لم يرزقه الله الذرية – لعل الله يرزقه من أخرى بنين تقر بهم عينه كما يفعل الرجال لما فعل , و لقد أنجبت أم “نعمة” بنتيها على كبر بعد أن يأست من الإنجاب و يبقى سر اختفاء بنت “نعمة” هو نقطة قوة هذه الرواية…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى