حكايا شهريار.. لو كنت طبيبي (4)

شرين خليل | مصر

اللوحة للفنان إدموند بلير لايتون

 

أنا في الظل أصطلي لفحة النار والهجير.. وضميري يشدني لهوى ماله ضمير..

جاءت أحلام وأخبرتني أنها تريد أن تتحدث معي ولكن وقت العيادة لن يسمح ،وطلبت مني أن تقابلني بعد الإنتهاء من عملي .وافقت طبعا وبدون تردد فهي صديقتها المقربة. إتفقت معها أن تنتظرني في إحدى الكافتيريات القريبة لها.
وبعد إلانتهاء من عملي نظرت إلي هاتفي لأجد رسالة من أحلام ..رسالة غامضة وكأنها تمهيد لشئ يصعب عليها قولة :
بعد التحية :
أريد أن أوضح بعض الأمور قبل أن تأتي :
فأنا لن أتكلم كثيرا ، سأجعلك تسمع تسجيل مهم جدا ولكن قبل أن تسمع لابد أن تعرف أنني لست صديقة مذيفة..أنا أحب صديقتي جدا وهي تعلم ذلك جيدا ولكني أجدها تسير في طريق خطأ وتخالف المبادئ التي دوما تنصحنا بها ..وبالتأكيد هي لن تلومني عندما تعرف أنني أخبرتك لإني بذلك سأخفف عنها ماتحمله من ضغوط وسأرفع عنها حرجا كبيرا.. أنا لن أستطيع أن أرسل لك التسجيل ،فمن الأفضل أن تسمع في حضوري لكي أوضح لك الأسباب والدوافع وراء ماحدث ..
أنا في إنتظارك ..
أثارت الرسالة فضولي بشدة ..وأسرعت في الذهاب إليها لأجدها في إنتظاري وكان شغلي الشاغل أن استمع إلي هذا التسجيل المهم الذي كنت أعتقد أنه رسالة ود أو أعتراف بأنها تكن لي بعض المشاعر …
وبكل إهتمام إستمعت إلي صوتها ينساب من هاتف أحلام فكم أعشق هذا الصوت الدافئ الحنون ولكن كانت الكلمات كالصفعات :
“أخيرا يا أحلام إنتهيت من الرسالة والمناقشة بكرة وهسافر …الولاد وحشوني..وشغلي ..
تعرفي إن التجربة مع الطبيب أفادتني وبسببها أنجزت في الرسالة ..لأنها تجربة حية .فهمتي ليه بقي كنت بكلمه بالساعات عشان أسمع حكاياته وأعيش سلوكياته..فرق كبير لما تسمعي حكايات وبين إنك تكوني جواها إنتي عارفة إن الرسالة عن المراهقة المتأخرة .. المشكلة دلوقتي أنا حزينة وعندي إحساس بالذنب ..عاوزه أعترف له وأقوله أنا ماكنش قصدي ..هو جه قدامي وحالته كانت مطابقة للبحث..
أنا مش راضية عن اللي عملته..بس عارفه برجع وأقول إنه يستاهل..
أحلام أقولك حاجه ..أنا كنت فعلا إتعودت إني أسمع صوته كل يوم ..ماهي المراهقة المتأخرة مش بتيجي للرجاله بس ..لأ وللستات كمان..
أنا فعلا أخطأت..
ردي علي يا أحلام إنتي روحتي فين ؟؟
_أنا هنا ياحبيبتي ومعاكي وهاساعدك.
ماتفكريش في حاجه دلوقتي غير المناقشة عاوزاكي تكوني متألقة كالعادة .. وأنا هاتصرف..
أشوفك بكرة
سلام”
سمعت الكلام وكأن خنجرا طعن قلبي ..لقد عشت في أكذوبة ..مرت أمامي الذكريات..وتذكرت حينما رجعت تحادثني مرة أخري كانت من أجل رسالتها ولم تتفاجأ بقصة زواجي ودوما كانت تركز علي مغامراتي..وحديثها عن الزواج المبكر ،والمراهقة المتأخرة والكتب التي كانت تقرأها .. بدأت أربط كل الأحداث ببعضها .الآن فهمت. أنا كنت أرض خصبة لتقوم بتجربتها ..
تركت أحلام ولم ألتفت لنداءاتها ..وخطوت بعيدا وصدي الكلمات يقرع في رأسي وذهبت لأقضي ليلة من أصعب الليالي .أخاطب نفسي : حتي ولم تبادلني نفس الشعور ..كانت علي الأقل تتركني في حالي وتبتعد .. أنا أعلم منذ البداية أنه حب ميئوس منه ولكن كان لابد أن تراعي أنه خارج عن إرادتي…كنت حالة مناسبة للبحث التي تقوم به ولم تفكر في نتيجة وأثر مافعلته علي ..لقد خدعتني ..
فكيف لهذا الوجه الملائكي أن يكون مخادع ..لقد أحببت فيها روحها الطيبة والحنونة ..كانت دائما عطوفة علي الجميع..كل من يعرفها كان دائم الشكر فيها حتي العاملات عندي إرتبطن بها بشدة .. شغف ..فلماذا ؟؟!!
أنا لم أتعرض لمثل هذا الموقف من قبل ..هل رأت في شخصيتي بعض الضعف؟؟ أم أنا فعلا حالة مرضية مطابقة للبحث؟؟
أسئلة لا أجد لها أجوبة ..
لذا قررت أن أذهب وأشاهدها أثناء المناقشة …
وفي الصباح عزمت أمري وذهبت إلي قاعة المناقشة حاملا معي باقة من الورود ومعها رسالة وجلست بعيداً أراقبها وهي تبدع في الحوار والإلقاء ووصفتني وصفا جعلني ممزقا حين قالت ” وهاهو الطبيب الماهر ،البارع في عمله ..كل يوم وفي الليل وبعد الإنتهاء من عمله ،يتحول إلي كائن ليلي يجول في الشوارع ويتحدث في الهاتف مع من تسمح له بهذه المحادثات الطويلة والتي تنتهي مع بزوغ الفجر .فمن يصدق أن هذا الطبيب الذي يمسك بأصعب الأدوات ويتفنن في إجراء أدق وأصعب العمليات، يتفنن أيضاً في إنتقاء وإلقاء كلمات وعبارات في الحب تجعل القلوب تذوب وتذوب من أجل تعويض ماعاش من حرمان في فترة من أهم الفترات التي تتشكل فيها شخصية الفرد فترة نالت إهتمام كثير من الباحثين والدارسين بإعتبار أنها الميلاد الثاني للكائن الحي وظهرت نظريات كثيرة لمجموعة من الباحثين حاولوا تفسير مرحلة المراهقة منهم من أعتبرها ولادة جديدة للإنسان في حياتة ومنهم من إعتبرها مرحلة إنتقالية في حياة الفرد ولكن في النهاية تتفق هذة النظريات في كون المراهقة مرحلة فريدة من مراحل نمو الفرد ..”
كنت أستمع لها وهي تتحدث بطلاقة
وبعد الإنتهاء والتصفيق الحار..أرسلت لها الورد مع إحدي العاملات وقرأت الرسالة :
“ألف مبروك لقد كنتي رائعة ،بارعة الأداء والتعبير . أتقتني الدور ..أشكرك ..فلقد كان درسا قاسيا ..فلن أثق في أحد بعد اليوم ..
أتمني لكي التوفيق والنجاح الدائم..”
الطبيب المراهق..
نظرت من مكانها فيمن حولها حتي تلاقت أعيننا ..ورأيت في عينيها الدموع ولا أدري هل هي دموع الندم أم دموع الفرحة ..فكلها أكاذيب ..كانت تنظر إلي الحاضرين حولها وكأنها لاتراهم ولا تشعر بوجودهم ..فهي لم تتوقع حضوري ..كانت تنادي بإسمي بصوت خافت وتقول إنتظر ولكني تركتها وتركت كل شئ ..
وخرجت من القاعة وحاولت أحلام أن تلحق بي ولكني لم ألتفت ..
ذهبت إلى حديقتي التي زرعتها من أجلها .جلست أتحدث إلي نفسي : هل هذا ذنب زوجتي التي تعبت من أجلي وتحملت الكثير معي..فهي لا تستحق مني مافعلته حتي التفكير في غيرها جرم شديد..
عاهدت نفسي أن أتناسي ..وأقتل هذا الحب الذي مزقني وقتلني .
ومرت الأيام ..
وأنا في العيادة دخلت آخر مريضة لأجدها هي بنفس الروح التي جاءت بها أول مرة وتحمل أيضا بعض الأشياء التي أعتقد أنها كتب ..
دق قلبي حبا …وخوفا ..
حبا …فأنا لا أنكر أنها لازالت بداخلي .
وخوفا ….من أن تخبرني بشيئا جديدا يقتلني.
دخلت وهي مترقبة ردة فعلي..
كان الحزن يخيم على وجهي قالت لي:
_أنا جيبالك المصحف والكتاب دا هدية .هاتقبلها؟
_ طبعا هاقبلها ..معقول حد يرفض الهدية دي مهما حصل .. وضعت المصحف أمامي علي المكتب والكتاب في حقيبتي ..
كنت أحاول الظهور بمظهر قوي ومتماسك..
أبعد نظري عنها حتي لا أضعف وبدأت معي الحوار قائله:
أنا عارفه إنك زعلان لكن ..
قاطعتها :
أستاهل ؟؟ صح ؟؟؟
أستاهل أكون تجربة أو حالة بحث !!؟
ردت بعنف :
وأنا كنت بالنسبة لك إيه؟ تجربة ومغامرة جديدة صح ولا غلط ؟
من البداية وإنت عارف إنك ماشي في طريق غلط .كله غلط سواء اللي عملته أو اللي قلته لكن حضرتك مش بيفرق معاك..كل اللي يهمك إنك تعيش قصة حب وبس وعارف الطريقة اللي تجذب بها أي واحدة وعارف إمتي تبدأ وإمتي تنهي وبتعرف تختار ضحاياك صح بتختار اللي تكون لوحدها واللي بتشعر إنها محتاجه إهتمام واللي تحس إنها هاتصدقك ومافكرتش في عواقب اللي بتعمله لو بنت وبتحلم بحبيب وزوج وصدقتك .في الآخر هتلاقي النهاية اللي متعود عليها وحافظ كلامها وهي إننا لازم نفترق أنا متزوج وعندي أولاد وبيتي هايدمر ..ساعتها البنت دي هايكون مصيرها أيه ؟ ولو واحدة متزوجة وبينها وبين جوزها مشاكل وصدقتك وكنت سبب في إفساد حياتها .كان ساعتها ضميرك هايكون مرتاح ..كل دا عشان تعيش الحب وتعيش المرحلة اللي أفتقدها في الماضي بدون أي إعتبارات لأي حد ..
دلوقتي غضبان عشان أنا قولت الحقيقة ولا عشان أنا مش هاكون في القائمة ؛ قائمة اللي مقالوش لأ ..اللي حضرتك كنت بتتفاخر وتتباهي بيهم..
دلوقتي مش هاتقدر تحكي عني للي هاتيجي بعدي زي ماحكيت لي علي اللي كانوا قبلي ..
_كفاية ..إنتي لية مصممة إني إنسان سئ ؟لية شايفاني بالصورة الوحشية دي ؟ أنا عمري ماكنت كده ..دي غلطتي إني وثقت فيكي وحكيت لك ..فضحتيني قدام صاحبتك وشوهتي صورتي وعملتي مني عبرة ..
وبدأت أرتجف وأتصبب عرقا ..
نظرت لي نظرة فيها خوف وقلق ..
_ممكن تهدي .صوتك كان عالي والسكرتارية زمانهم سمعوا .. وبعدين أنا مش جايه نتخانق..
أنا هاسيبك تهدي وهانزل الكافية اللي تحت ولو عاوز نكمل كلامنا في هدوء هاتلاقيني موجودة
إنهاردة مباراة النهائي مصر والكاميرون وأنا هامشي قبل نهاية المباراة عشان الزحمة .بعد إذنك ..
خرجت وبعد دقائق وصلتني منها رسالة
“طبيبي العزيز
أعلم جيدا أنك غاضبا مني وأعلم جيدا أنني أخطأت في حقك وليس من حقي محاسبتك لكني شعرت أنك أعتبرتني تجربة وهذا الإحساس قتلني فأنا لا أسمح لأحد أبدا أن يفكر ولو مجرد فكرة أنني من الممكن أن أتساهل في شئ يخص أخلاقي ومبادئ فأنا لست تلك المرأه التي تسمح لأحد أن يعتبرها تجربة أو تسول له نفسه بأنه قادر علي أن يخدعها فكان هذا مجرد رد فعل إنتقامي مني
حاولت أن أبتعد ولو تتذكر فلقد طلبت منك أن تبتعد عني فأنا لا أنكر تعلقي بتلك المكالمات الهاتفية ووجدت نفسي علي وشك الوقوع في شئ لم يكن في الحسبان فأنا لست بهذه القوة التي أحاول أن أظهر بها دائما .
مرة ثانية أنا حقا أخطأت وكان خطأي أكبر من خطأك
أتمني أن تكون رسالتي وصلت
طلب أخير :
لو كنت طبيبي
سامحني..”
أدركت معني الرسالة وفهمتها فأنا حقا كنت سببا فيما فعلته .
سارعت بالنزول حتي ألحق بها
وبالفعل وجدتها
وجلست وأنا أشعر بإرتياح بعض الشئ ..
سألتها: أخبار الماتش أيه ؟ تعرفي أنا تابعت البطوله كلها ..
ضحكت بهدوء.. وقالت من إمتى ؟
_من يوم ماعرفتك وأنا أهتميت بالرياضة والقراءة ومش بعيد تلاقيني بكتب حكايات …
_خايفة أقولك إن حكاياتك تنفع فعلا كتاب ويكون إسمه- حكايات شهريار- ..تزعل تاني ..
_اللي ماتعرفهوش عني إني طيب وبسامح.. وسامحتك .
_أنا خلاص مسافرة.
ومش بحب أكون سبب في جرح اي حد.
يمكن بكون قاسية لو حسيت إن في حد بيخدعني لكن مبدأي الأساسي هو إني ماجرحش حد أو أكون سبب في إنه يتأذي نفسيا ، عشان كده جيت مش عاوزه أسيب ذكري سيئة..
أنا كده قولت كل اللي عندي وهامشي .
_إستني أوصلك ..
_ لاء مش هينفع مش هانكرر الماضي تاني ..
_طيب لسه بدري إنتظري نهاية المباراة
_ الدنيا ها تكون زحمه وبعدين خلاص كلها دقائق وتنتهي المباراة.
_ممكن أقولك كلمة اخيرة إسمعيها مني وصدقيني :
أنا عمري ما خدعتك. مشاعري تجاهك كانت صادقة ومازالت ..إنت أجمل إنسانة عرفتها إنتي وردة ..أنا فعلا كنت أتمني لو كنا إتقابلنا وكملنا حياتنا سوا ..
إبتسمت قائلة: لي لو كنا بقي ….
أشوفك علي خير ..سلام .
وقفت لكي أودعها وقلبي يكاد ينفطر من الحزن ،وأشعر بضيق شديد في أنفاسي وإختناق ..ففي اللحظة التي رأيت في عينيها البريق الذي أخبرني بدفء مشاعرها كانت تمتزج معه دموع الوداع.. ذهبت وتركتني .إلتفت حولي فإذ بي أجد ……
أجد زوجتي واقفة تنظر إلى نظرة لا أستطيع وصفها
شعرت بأنني أتجمد مكاني فلقد رأت وهل سمعت ؟؟……يكفي ما رأت
تركتني هي الآخري وذهبت وأنا لا أستطيع حتي أن ألحق بها وفجأة أجد غضب وثورة حولي فلقد إنهزمت مصر.
حتي عندما إهتممت بالرياضة إنهزمنا ….ياللمفارقات العجيبة !!
بدأت الدنيا تدور من حولي وبدأت أشعر وكأنني أغرق في بحر متلاطم الأمواج ولا أستطيع المقاومة ، أري كل من حولي بصورة مشوشة .
رجل يكلمني ويقول :
(معلش ملناش حظ نفرح ماتزعلش )
وكانت آخر كلمه سمعتها :::::
الحساب ……..
وقعت علي الأرض وأنا في حالة إعياء شديدة..
ولم أشعر بنفسي إلا وأنا في المستشفي وبجانبي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى