فلسطين تحتضن بهجتها، لكنها خائفة كذلك
خالد جمعة | فلسطين
البلاد كلها، بجهادييها، بفتحاوييها، بحمساوييها، بجبهاوييها، بمتطرفيها، بمعتدليها، تحتضن بهجتها، ويشعر كل واحد فيها بأن هناك انتصاراً شخصياً تحقق له، كل واحد خرج من نفق ما، أقله تلك التنهيدة التي خرجت من صدر رجل عجوز في الشارع حين سمع الخبر: ولااااااااااااااااو ما أعند الفلسطينية… ثم ضحك.
لكن فلسطين، كأي أم، تخاف على أبنائها، باتت الليلة على سجادة الصلاة، ترفع يديها إلى خالقها:
اللهم يا من أخفيت نبيك ببيت عنكبوت وبيضة حمامةٍ على باب الغار، اعمِ أعين الجنود عنهم، وامنحهم هواءً نقياً بارداً، ورفاقاً من النجوم والدروب السهلة، واروِهِم بماء السحاب وأنزل الطمأنينة على قلوبهم كما أنزلت الطمأنينة على قلب نبيك إبراهيم وهو في قلب النار.
ثم تقرأ سيدة عجوز في قرية نائية آيةً من سورة الأعراف: “وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ”، وتبتسم، كيف أن الله قال ذلك قبل كل تلك القرون…
تلقى الاحتلال ضربة في صميم عقيدته العسكرية، في صميم عقيدته الأمنية، لم ينفعه العدد كل 6 ساعات، لم ينفعه التفتيش المفاجئ كلما داعب ذلك أمزجة الجنود، لم تنفعه المراقبة والأجهزة الألكترونية الأكثر تطوراً، لماذا؟ الإجابة بسيطة.
يقاس الذهب بالغرام، وتقاس جودته بالعيار، ويقاس العمر بالوقت، والطرق بالأمتار، إلخ، وكل هذا تستطيع الأجهزة الحديثة أن تقيسه أفضل من الإنسان مليون مرة، ولكن…
بم تقاس الإرادة؟ بم تقاس رغبة الحرية؟ بم تقاس العزيمة؟ بم يقاس الإصرار؟ بم تقاس الوطنية؟ بم يقاس الحب؟ بم يقاس الجلد؟ بم يقاس التحدي؟
لا يوجد ـ ولا أظنه سيوجد ـ ذلك الجهاز الذي يقيس ذلك، وهذا ما أغفله الاحتلال منذ أكثر من سبعة عقود، لم يفهموه، ولن يفهموه.
لا تتعلق المسألة فقط بهروب ستة أسرى، أو تحررهم بجهودهم ـ الله لا يخلف على حدا ـ بل تتعلق بضرب منظومة أمنية كاملة في القلب، في قلبها البارد والرقابي والرقمي، منظومة أمنية تظن أن المناضل يشبه العصفور الذي يمكن أن يتعود على القفص بمرور الوقت، لكنهم على ما يبدو لم يقرأوا قصة غسان كنفاني، وعصفوره الذي ظل يضرب جسده في جدران القفص بشكل مستمر إلى أن مات، ليست كل العصافير قادرة على احتمال القفص، وهناك عصافير ستة، قرروا، تحدوا، خططوا، ثم اخترقوا القفص، وتركوا سجانهم مع عشرة آلاف سؤال لا إجابة لها.