بدون مؤاخذة.. القدس عاصمة التمدّن العربي

جميل السلحوت | القدس الشرقية – فلسطين

في كتابه”قالت لنا القدس”انتبه أديبنا الكبير محمود شقير الى ما أسماه”ترييف المدينة”وأبدى مخاوفه من أن هجرة أبناء الريف الى عروس المدائن سيكون لها تأثيرها السلبي على الحياة المدينية في مدينة القدس، وهذه لفتة كريمة من مثقف فلسطيني كبير خصص جزءا هاما من كتاباته ومؤلفاته عن القدس الشريف، ولم تأت عفو الخاطر، ولكن عن وعي وادراك لما تمثله هذه المدينة الفريدة.

وإذا عدنا إلى عبق تاريخ المدينة عندما كان العرب عربا، وكان المسلمون مسلمين، سنجد المجاهد الخالد صلاح الدين الأيوبي الذي حرر القدس من دنس الفرنجة في العام 1187م، فقد أسكن القبائل والعشائر البدوية في تخوم المدن، ليحموها من الغزو القبلي، ولم يسكنهم المدن، فعلى سبيل المثال أسكن عشائر عرب السواحرة أهلي وربعي وأبناء عشيرتي في جنوب المدينة القديمة، على جبل المكبر تحديدا، وكان ذا نظرة ثاقبة في ذلك، وإذا كان هناك من يدعو الى ترييف المدينة المقدسة أو(بَدْوِنَتِها)فعليه أن يتذكر أن غالبية المدن الفلسطينية هي قرى كبيرة، جرى توسيعها واقامة أبنية حديثة ومشاريع اقتصادية فيها، وتمّ تشكيل مجالس بلدية لها، أمّا الحضارة المدينية الحقيقية فإن القدس عنوانها، ليس في فلسطين فحسب، بل في كافة أرجاء العالمين العربي والاسلامي، ولسنا بحاجة الى التذكير أن القدس القديمة بشكلها الحالي سبقت اكتشاف أمريكا بمئات السنين، وأن المسلمين عندما فتحوها في العام 635م الموافق سنه 15للهجرة، كانت مدينة قائمة ولها سور يحميها فحاصروها ما يقارب الستة شهور، حتى سلمها البطريرك صفرونيوس للخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وتثبت الحفريات التي تمزق أحشاء المدينة أن هناك أنفاقا ومخازنَ وطرقات تحت المدينة الحالية، وجميعها تشير الى أنها آثار عربية إسلامية، وهناك بعض الآثار البيزنطية عندما استولى الرومان على القدس قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام بقليل.

والحديث عن القدس وتاريخها يحتاج الى مجلدات وأبحاث، لكن في كل الظروف فإن القدس تخطت منذ آلاف السنين مرحلة البداوة والحياة البدوية والقروية أيضا، وعلينا أن نفاخر بامتدادنا الحضاري عبر التاريخ والذي أكثر ما يتمثل في القدس، واذا تغنى آباؤنا بأن”لندن مربط خيولنا”نكاية بالانجليز الذين استولوا على فلسطين واستعمروها بعد الحرب الكونية الأولى، وفتحوا حدودها للهجرة اليهودية تمهيدا لتنفيذ وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فإن القدس لن تكون مربطا لخيولنا، ولا مكانا لبناء خيامنا، بل ستبقى كما هي عنوانا لحضارة شعبنا وأمتنا.

أذكر ذات يوم في أواخر سبعينات القرن الماضي أن وفدا ثقافيا بريطانيا زار مدينة القدس، والتقى بعدد من المثقفين الفلسطينيين في المسرح الوطني الفلسطيني-الحكواتي- فقال أحدهم:”إن القدس التي تتقاتلون عليها أصغر من أصغر أحياء لندن” فرد عليه الراحل محمد البطراوي قائلا:”لكن القدس بشكلها الذي تراه سبق وجود لندن كمدينة بآلاف السنين” فاعتذر الزائر البريطاني عن الخطأ الذي وقع فيه.”

والعالم جميعه يعترف بحضارة القدس، لذا فإن منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة”اليونسكو” تعتبر القدس القديمة إرثا حضاريا للإنسانية جمعاء، وهي بهذا شاهد على مساهمة شعبنا الخلاقة في بناء الحضارة الإنسانية، فهل تصلح القدس بعد هذا أن تكون”عاصمة للعشائر العربية”؟ وبالتأكيد إنها العاصمة السياسية والدينية والتاريخية والثقافية لشعبنا ولدولتنا العتيدة، وهي مفتوحة للمؤمنين العرب والعجم كونها الحاضنة لأقدس مقدسات المسلمين والمسيحيين، فالمسجد الأقصى أحد المساجد الثلاث التي تشد اليها الرحال، وهو مقترن بالكعبة المشرفة في مكة المكرمة، وبالمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، وكنيسة القيامة هي مكان حجيج المؤمنين المسيحيين، لكنها في كل الظروف تبقى عنوانا للتحضر والتمدن.

وعندما اعترفت في 6ديسمبر 2017 الإدارة الأمريكيّة بالقدس عاصمة لإسرائيل، فهي لا تنتهك القوانين والقرارات الدّوليّة فحسب، بل تعدّتها إلى انتهاك حرمة الأديان وحرمة التّاريخ معتمدة على جنون القوّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى