تمثّلات الشعريَّة في ديوان: «شيء يشبه الرقص» للشاعر السعودي شفيق العبادي

 أ. د. سعد التميمي | أستاذ البلاغة والنقد الحديث في الجامعة المستنصرية


تنطلق العملية الشعرية عبر ثنائية الوعي واللاوعي، التي يكتنفها التعقيد والتشابك في الآليات، ما يتطلب ثقافة ومعرفة بالبعد الجمالي للفكر واللغة، واذا كان فرويد قد ثار على منظومة الحداثة المتمركزة حول الذات والعقل والوعي باعتقاده أن الفن نتاج اللاوعي الخفي، فان التسليم بهذه المقولة وارجاع الى الابداع الى اللاوعي بالمطلق غير ممكن، فالعمل الأدبي والفني هو نتاج تفاعل الوعي واللا وعي، فالوعي هو عملية عقلية مرتبطة باللغة للكشف عن ماهية الوجود والذات الإنسانية، أما
اللاوعي فهو عقل آخر كما يذهب الى ذلك يونغ أو هو العقل الطبيعي الأكثر شمولًا من العقل الواعي، فالوعي يرسم باللغة تفاعلات المشاعر والأحاسيس التي تنطلق من اللاوعي عبر النفس التي تمثل ذات الشاعر. 
وفي ديوان «شيء يشبه الرقص» للشاعر السعودي شفيق العبادي يتجلى هذا التضافر بين الوعي واللاوعي في التعبير عن كثير من القضايا في قصائد الديوان مثل: الشعرية وذاكرة الطفولة وفكرة الفقد والموت والاغتراب والحلم والمرأة، التي ما زالت ملامحها عالقة في الذهن كما في قوله من قصيدة «شظايا» التي يقول فيها:
وحين تسَرَّبتِ بين شُقوقِ الطفولة – بالأمس
مفردةً لم أزَلْ أتَهَجَّى وقد هرم الحُلمُ 
واشْتَعلَ العُمرُ حُزْناً دُروب القواميس
كيما أفُضَّ بُكارتَها  
فاستحال المدى قدحاً بين أجفانهِ الناعساتِ
ترشِّينَ خمْرَ الأُنوثةِ من جمْر عينيك حتى اذا اكتمل المدُّ 
أو كاد أوشكَ أن يتَفَلَّتَ
كان المساءُ شظايا على غير عادته.


فاللا وعي في هذه القصيدة يتمثل في الحلم الذي أيقظ الشاعر، الذي يصوره بالعطر الهارب من عيني الحبيبة، بعد أن حكم القدر عليهما أن يفترقا غريبين ويكونا بوصلة للرحيل، كما يصور ذلك في آخر القصيدة، ليعبر عن مخاوفه من استحالة اللقاء، لكن الوعي حاضر في استحضار الذكريات التي استحالت حلما يراوده، فالحبيبة تعود عبر الذكريات مفردة ما زال الشاعر يحاول أن يتهجى حروفها، رغبة في وصل الغياب بالحضور، ويوظف الشاعر في قوله “واشْتَعلَ العُمرُ حُزْناً” التناص مع قوله تعالى ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً﴾ ليصور حالة اليأس من العودة للحظات العشق، ويعزز ذلك الصور الشعرية التي تقوم على الانزياح في قوله (شُقوقِ الطفولة، دُروب القواميس، خمْرَ الأُنوثةِ، جمْر عينيك) وهذا التضافر بين اللا وعي الذي يتجلى في مخاوف الشاعر وقلقه والوعي باستذكار اللحظات الجميلة، التي عاشها قرب الحبيبة هي التي خلقت الجمال وحققت الدهشة في القصيدة، ويأتي الوعي بجمالية الانزياح على مستوى التراكيب اللغوية عبر صياغة علاقة جديدة بالأشياء لا وجود لها في الواقع لكنها تنطلق منه. 
 ومن الموضوعات المهيمنة في هذا الديوان الشعرية المتمثلة بالقوانين التي ترسم ملامح القصيدة، وتنقل الكلام من دائرة الابلاغ الى دائرة البلاغة والمجاز، وهذه الفكرة متمركزة اللا وعي تتمثل في ايمان الشاعر بأنه عارف بأسرار القصيدة وعناصر تشكيلها، لتخرج هذه الفكرة الى وعي الشاعر ليعيد صياغتها في أكثر من عشر قصائد، لتصوير عملية خلق القصيدة ودور المجاز في خلق الجمال والدهشة فيها، ومن هذه القصائد (شامةٌ تضيء وجه صبيّة، بوصلة الغريب، الشاعر، سلام .. سلام، جدارية الرحيل، أول الأبجدية،سراب، على قاب حرفين، شيخ الرواة، ليسوا هم، للمرايا)، اذ يشتغل وعي الشاعر في تتبع خطوات بناء القصيدة وعناصر بنائها وتشكيل المعاني فيها بالطريقة، التي تخلق الجمال وتؤثر في المتلقي، فيقول في قصيدة شامةٌ تضيء وجه صبيّة :
ولدتُ على بعد قافية من هنا 
وحرفا بطعم المجاز استعارتْه أمي من سمرة القمح 
…………
روّضْتُ لسانَها لضَبْط مَخارِجَ الحُرُوفِ بشكْلِها السليم كي تحْترفَ مهنةَ
اﻹِلْقاءِ كذلكَ الفَتَى الغامضِ الذي يُلْقِمُ أشْعارَه الجَميلة جدرانَ الليْلِ فتَكْبُرُ
مَجْهولَةَ السُلالةِ
فالشاعر يصف علاقته بالشعر، فالولادة في رحم القصيدة التي يحيل اليها بالقافية، ونكهة الشعر تتجلى في المجاز العنصر الفاعل فيه،واستعارة المجاز من سمرة القمح لما يرمز اليه من نماء وجمال، أما ترويض اللغة فهو الطريق لكسب موهبة ومهارة الشعر. 
ويؤكد الشاعر دور الغموض كواحد من أهم عناصر الشعرية، وقد بدا واضحا في معظم قصائد العبادي،فهو يربط الغموض بالجمال،اذ يلقم أشعاره الجميلة جدران الليل، ويؤكد ذلك في الجملة التالية (فتَكْبُرُ مَجْهولَةَ السُلالة)، فالغموض برأي الشاعر يحقق دهشة في القصيدة، وقبل ذلك يصف نفسه بالفتى الغامض، فالشاعر يستثمر المعايير الجمالية للغة في وصف العملية الشعرية وصناعة القصيدة. 
 ويفصل في خطوات بناء القصيدة منطلقا من وعيه بعملية البناء، ودور المجاز في تشكيل صورها والتعبير عن معانيها، ليكون المتلقي الأول والناقد العارف بأسرارها، اذ يقول في قصيدة (هم ليس هم): 
هُم ليس هُم من أوهموك بأنّ ربّان القصيدة لم يكن يوماً سواكَ
فأنتَ مَنْ أوقدتَ بينَ حروفِها مَطَرَ المجازِ
ومَنْ غَرَسْتَ نَوافِذَ الرُؤْيا بِها، وعَبِرْتَ بالأَوْزان 
بينَ مَفاعلٍ، فَعلٍ، فَعيل
هُم ليس هُم من قايَضُوكَ على انْتمائِكَ فَيهم 
أو بيْنَ أنْ تَبقى طَريْداً في القَصيدَةِ
 
لقد وجدنا في هذه القصيدة وغيرها معجما لقوانين الشعر مثل (الشاعر، القصيدة، البيت الكلمات، الحروف، الأوزان، التفعيلة، الاستعارة، المجاز، الغموض، المعنى الشعري)، فاستحضار هذه الكلمات لتركيب الجملة الشعرية، يبعث من خلالها الشاعر رسالة للمتلقي يؤكد فيها وعيه بالعملية الشعرية، فهو من منح الحروف والكلمات والجمل طاقة الشعر بالمجاز، اذ يراه عصب الشعر لذلك يذكره كثيرا في قصائده فضلا عن توظيفه بشكل كبير. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى