الطبيب الحزين

بقلم: مصطفى العارف | العراق

الساعة الثالثة بعد منتصف الليل, سمع دكتور إبراهيم طرق بابه بقوة, وجرس البيت لم يتوقف عن العمل, استيقظ من نومه ,وحاول القيام شعر بدوار الغرفة من حوله, تماسك جيدا, وارتدا معطفه, وخرج إلى باحة الشقة  والجرس ما زال يرن وطرق الباب أزاد وبقوة اشد, أفزعه الأمر, فتح الباب مرعوبا, وجد جاره سميرا يطلب مساعدته -:  ما بك؟ وما الذي حدث؟:- دكتور إبراهيم زوجتي بين الحياة, والموت,أرجوك ساعدني, البرد قارص جدا, والسماء تمطر, والتيار الكهربائي منقطع, ولا يوجد في العمارة غيرك, نزلت معه بسرعة فائقة  إلى الطابق الثاني, دخلت شقة مظلمة, وامرأة تضرخ بصوت عال, وتتلوى من الألم, حتى انقطع نفسها, كشفت عليها وجدتها تمر بحالة خطرة, ويجب نقلها إلى اقرب مستشفى, حاولنا نقلها, ولكن أغمي عليها زادت حالتها سوءا, أجريت لها عملية قيصرية فورية  في شقتها, وأنقذتها وطفلها من الموت  بأعجوبة, وأردت كتابة العلاج إليها, لأنها فقدت الكثير من الخلايا أثناء العلمية, وأصيبت بفقر الدم, وتحتاج إلى الفيتامينات, والأدوية  المساعدة, :- سألتها  ما اسمك؟ أجابت بصعوبة:- اشتياق نور.عرفتها من صوتها الناعم, وشعرت بقشعريرة تسري في جسمي. سقط قلمي مني, وتبعثرت أوراقي, وعادت بي الذاكرة إلى أيام المراهقة , كنا نعيش في منطقة ريفية تضم بيوتات قليلة , كنت أعاني من قصر قامتي, ومن شكلي القبيح الذي لا ترغب به النساء مما اضطرتني الظروف إلى الانطواء, والتعقيد , والانعزال عن العالم, قرأت الشعر العربي للهروب من واقعي المرير , وحاولت كتابة الشعر الرومانسي, في مكان قريب من النهر العذب لمنطقتنا, والخالي من البشر, تحيط النهر أشجار عالية, وطيور تحلق عاليا, وسماء صافية, وفي يوم من أيام الربيع  شاهدت فتاة جميلة تجلس أمام النهر, وتتحدث معه, خفق فؤادي لها ,كنت أتوقع منها الصد ,والابتعاد عني مثلما تفعل نساء المنطقة, لكنها  نظرت إلي نظرة عطف ومحبة ,اقتربت, وجلست بالقرب منها, تملكتني  الجرأة لأول مرة ,وسألتها عن اسمها ابتسمت بوجهي, وقالت:- اشتياق ابنة العقيد نور الدين , وبدأت علاقتي معها كانت رائعة الجمال ,وكنا نلتقي كل يوم ,اقرأ لها الشعر الذي نظمته فيها  ,كانت تملك ميولا أدبية, وكنا نشعر بسعادة لا مثيل لها في العالم, أثناء خروجي من البيت كانت المفاجأة إذ خرج والدي من غرفته وطلب مني الاستعداد للسفر بعد يومين, لم استطع الرفض, أو القبول, كنت صغيرا, وخائفا من والدي المتجبر, والمتسلط , أوصلني إلى المطار ,وتركني وحيدا أعاني من قسوة الحياة , وطلب مني عدم الرجوع إلى بلدي حتى حصولي على الشهادة , علمت فيما بعد بوجود مشكلة عائلية بين والدي, ووالدها, فكنا الضحية ,وبعد تفوقي, ونجاحي المستمر, تخصصت بطب النساء والتوليد, كنت في كل ليلة أتذكر اشتياق ,واكتب مذكراتي عن كل يوم قضيته في بريطانيا بعيدا عنها  ,وأرسل إليها رسائل عدة, مرت سنوات ,وعدت إلى بلدي احمل شهادة الدكتوراه في الطب النسوي, وكنت مشتاقا إليها, وانتظر رؤيتها  بعد فراق دام لعدة سنوات من الغربة ,والاغتراب , كان في استقبالي والدي ,وجميع أفراد عائلتي , وأنا سعيد جدا لأنني حققت لوالدي ما أراد مني , لكني لم أحقق حلمي بعد وقررت مفاتحته في الارتباط والزواج من اشتياق ,وترك الخلافات ,وبداية حياة جديدة , وجه والدي دعوة إلى جميع الأقرباء ليتباهى بحصول ولده على الشهادة من بريطانيا , كنت ابحث عنها في كل مكان من بيتنا الواسع نظرت إلى وجوه جميع النساء المدعوات, لم تكن معهن, زادني الموقف حيرة , دخلت غرفة أختي نسرين وسألتها :- نسرين أين اشتياق؟ ولماذا لم تحضر مع الضيوف؟ هل لأن الوقت متأخر؟ نعم يبدو كذلك, لكن بيتها خلف بيتنا ,وقريب جدا منا , كذلك لم يحضر والديها للسلام علي. قاطعتني نسرين:- اشتياق تزوجت مرغمة من ابن عمها السكير منذ مدة زمنية طويلة, وتركت منزلها ,وسافرت مع زوجها ,ووالديها إلى العاصمة ,ولم تترك لنا عنوانها أو مكان  أقامتها . صعقت بالخبر, وجن جنوني , وصدمت صدمة لم أتوقعها ,جلست على الأرض, وقلبي يقطر دما, وبقيت حبيس الدار لمدة سنتين حتى تجاوزت الأزمة, وأدمنت على المهدآت. لم تمر علي لحظة دون أن اذكرها ,واكتب عنها أجمل الأشعار, سالت عنها في كل مكان لا احد يعرف مكانها, سالت عنها النهر والضفاف والشجر, بحثت عنها في كل مكان لم أجدها  -: صاح زوجها دكتور إبراهيم, انتبهت لكلامه, لا أعرف كيف أشكرك؟ لقد أنقذت زوجتي, وطفلي. -:ما رأيك حبيبتي في تسميته  الآن ؟نظرت إليها نظرة العاشق الحزين الذي لم يحقق حلمه , ورفض الزواج من جميع النساء حتى وفاته, ونظرت إلي نظرة المظلومة, التي لا تستطيع التعبير, والكلام فكانت لغة الصمت والدموع , والندم والحسرة والألم هي المتنفس الوحيد  لها ,  سالت دموعها على خديها , ومسكت يدي بقوة.

-: قالت نسميه إبراهيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى