ثورة الـ 21 سبتمبر.. انتصار الرواية الشعبية على التاريخ الرسمي (3)
إبراهيم محمد الهمداني | اليمن
مما لا شك فيه أن التاريخ يكتبه المنتصر دائما، وذلك يعني إنتاج خطاب تاريخي مزيف، يعمل على تحسين صورة القاتل المنتصر، واغتيال التاريخ الشعبي، وتضحيات الجماهير وبطولاتها، بنسبتها إلى ذلك الفاتح المنتصر، خالصة من دون حتى مشاركة الناس، الأمر الذي يعزز مستويات الهيمنة السلطوية، ويمكنها من الاستحواذ المطلق على مجريات التاريخ مستقبلا، ونفخ أحداثه ببطولات وهمية، في صيغة سردية تاريخية مقولبة سلفاً، تمنح النظام الحاكم عمراً إضافياً من الهيمنة، لكنها في النهاية آيلة إلى السقوط لا محالة.
ورغم تداعيات ومخاطر ذلك التزييف والانحراف بالسردية التاريخية عن مسارها الطبيعي، إلى مسار مزيف ومخادع، يحتمي بقناع من القداسة التسلطية، فإن هناك ما هو أخطر منها، وليس أخطر من تزييف السردية التاريخية كتابةً، لصالح المنتصر، إلَّا التدخل الإمبريالي الغير مباشر في صناعة السردية التاريخية، وتوجيه مسار التاريخ بما يخدمها، من خلال إيجاد كيانات سياسية وظيفية محلية، ودعمها تحت مسمى الصداقة، وإيهامها أنها صاحبة القرار، وصانعة الحدث التاريخي، وتعزيز تواجدها بحاضنة شعبية قائمة على الفرز العنصري والتعصب، لإيهامها مجدداً بمشروعية نهجها وشرعية حضورها.
إن خضوع السرديات التاريخية لاستراتيجيات الكتابة والمحو (كتابة التاريخ الرسمي المنمق، ومحو التاريخ الشعبي الحقيقي)، وإن انطوى على خطر التوثيق المُزَيف للأحداث، في مساريها التزامني والتعاقبي، وفق مقاسات الحاكم، ورغبات المنتصر، إلَّا أن الحقيقة سرعان ما تثأر لنفسها، من فقهاء وعلماء ومؤرخي البلاط، وسرعان ماتسقط هالة القداسة والمثالية، التي نحلوها للحاكم، واجتهدوا في إلباسه إياها، وسرعان ما يسقطون هم أيضاً في مستنقعات الخيانة والكذب، ليصبح هؤلاء وأمثالهم، هم أعداء الشعوب في المقام الأول، قبل الحكام والمستبدين، لأنهم هم من صنعوا الفراعنة والديكتاتوريات، وساعدوهم على ممارسة المزيد من الإجرام والقتل والقمع، خاصة بحق معارضيهم، انطلاقاً من نظرية الحق الإلهي، التي شرعنوا بها إراقة الدماء، وتكميم الأفواه، وإخراس صوت الحق، مخافة تفرق الجماعة بزعمهم.
وذلك النوع من الكتابة والمحو، يمكن قراءته في إطار التاريخ البعدي، ونسق التوثيق الموجِّه للأحداث والوقائع، بما يخدم المنتصر/ الحاكم، ورغم جنايته الكبرى بحق الإنسانية عامة، وتدجينه لعقول الأجيال خاصة، إلَّا أن قراءة منهجية علمية فاحصة،بإمكانها تعريته وكشف زيفه واختلاله، وإعادة صياغته، مدمجاً مع التاريخ الشعبي الشفاهي، في عملية توثيق متكاملة.
وليس بخافٍ على أحد أن تلك الصيغة الكتابية، كانت هي المنهجية السائدة، في السردية التاريخية العربية القديمة، وخاصة تلك الممتدة من العصر الإسلامي إلى بداية العصر الحديث، ومع ظهور الاستعمار الغربي والأوروبي في العصر الحديث، برزت صيغة أخرى، اعتمدها ذلك المستعمر الأجنبي، تقوم على استراتيجية صناعة أحداث السردية التاريخية، وتوجيه الوقائع والتحولات بأسلوب غير مباشر، لتبدو كأنها نتاجاً طبيعياً ومنطقياً لطبيعة التحولات السياسية والاجتماعية والحياتية عموماً، وذلك هو ما أنتجته بالفعل القوى الاستعمارية، تجاه الثورات العربية في العصر الحديث، بعد أن هُزمت عسكرياً، وأيقنت بعدم جدوى قوة الحديد والنار، فسارعت إلى زراعة عملائها في كيان الصف الثوري، ودعت الثوار إلى المفاوضات، مباركةً ثورتهم في تملقٍ واضحٍ، ومعلنةً للشعوب نزولها عند رغبتهم، ورحيلها عن أراضيهم، ومنحهم الاستقلال الكامل، مبديةً استعدادها لتقديم يد العون والمساعدة لتلك الشعوب وقياداتها، على كافة المستويات، في إقامة أنظمة حكم ديمقراطية عادلة.
غير أن الشعوب وقعت ضحية سذاجتها وغفلتها، وعدم حذرها من مكر عدوها، لتكتشف هول الفاجعة التي منيت بها، وحجم الكارثة التي أصابتها، حين ذهبت تضحياتها، ودماء شهدائها، أدراج الرياح، فلم يغب من مستعمرها إلا شخصه، وقد حلت الأنظمة الحاكمة محله، ليمارس من خلالها أبشع أنواع الظلم والتوحش والإجرام، وبذلك أصبح أولئك الحكام العملاء المستبدون، حميرا للإمبريالية، يحملون وزر جرائمها بحق شعوبهم، ويطوعون الشعوب أكثر، لذلك المستعمر ومخططاته، وحينها تكتشف الشعوب – وهي تعض أصابع الندم – أن كل ما فعلته، هو استبدال ديكتاتور خارجي، بمثيله المحلي، في صيغته العربية شكلا، الغربية الإمبريالية مضمونا.
وهذا هو ما عملت ثورة ال 21 من سبتمبر 2014م، على تلافيه، والحفاظ على ثورة الشعب السلمية، بعيدا عن دوائر الاستقطاب والهيمنة، وقد تحقق لها ذلك بالفعل، واستطاعت الانتصار للشعب وبالشعب، في سرديته التاريخية العابقة بالتضحيات، والمتوجة بالانتصارات العظيمة، التي فتحت أنظار العالم على هذا الشعب وثورته وقائده، وجعلت منه أنموذجا ثوريا قياديا شعبويا حقيقيا صادقا، وجعلت اليمن يتصدر المشهد السياسي، على مستوى محور المقاومة، ورقما صعبا في معادلة الصراع العالمي، وأصبحت كل التحولات في المنطقة، تشير إلى حالة متقدمة من الإعجاب والارتياح الشعبي الإقليمي والعالمي، لشخص السيد القائد حفظه الله ورعاه، ناهيك عن كثير من الأصوات الشعبية الإقليمية، التي رأت فيه مخلصها، وصانع فجر تاريخها ومستقبلها، وأعلنت تسليمها المطلق له، بوصفه صانع التحولات التاريخية والإنسانية الكبرى، التي تنتصر للإنسان على المادة، وتنصف الشعب من الحاكم، وتجسد إرادة الشعوب، وترفض هيمنة الأنظمة، وأطماع ومشاريع الاستبداد.