ابن ليل
محمد فيض خالد
تلقَى والده ضربة فأسٍ مميتة أثناء عِرَاكٍ مفتعل حول نوبة ريٍّ ، أوصى أمّه وهو في برودةِ الاحتضارِ بالفرارِ ، لم تجد من بدٍّ إلّا أن تهرول صوبَ قريتنا، ففيها أبناء عمومتها عزوتها وسندها، شابة في الثلاثين حباها الخالقُ مِسحة من جمالٍ ريفيٍ متوهج ، على الرُّغمِ من تلك النّعمة المخبوءة لم تنل ” فكيهة ” ما يسرّها ، تربصتها العيون الجائعةُ تتناوشها منذ يومها الأول؛ حتى ضَاقت بها مذاهب العيش، لم تجد من حيلةٍ سوى الصّبر ، فابنها الوليد لم يبرح بعد ليّن العود ، ضعيفا مسلوب القوة ، مشت الأيام ثقيلة وهي مع هذا تجنّب نفسها مزالقَ الغواية، عسى أن تُهيّء “لصابر” من نعومةِ الحياة وطراوة العيش، ما يُحييّه رجلا مُستقيما، يحقّ له التّفاخر بينَ الرِّجالِ، شَبّ الفتى رَصدَ المكائد ، يراها حتى في أولئك الذين اعتقد فيهم الحِمى والقُربى ، مُبكِرا نَزَعَت نفسه إلى الانتقامِ، فبدى وكأنّ الحُبّ قد غَاصَ وهَجَرَ قلبهِ، لا سَميرَ له إلّا طَيف ماضيه الأسيف، يطرفه في أحاديثِ أمه ساعة يضع رأسه وسط حِجرها مساء ، تحكي ما يعتصر صدره : كَانَ والدك شَهمًا سَخيّا ، لكن يد الغدر لم ترحمه ، كُنْ رجلا ولا تتساهل في حقك، الدُّنيا غابة البقاء فيها للأقوى .
عادت كلماتها نيران مُتأجّجة ؛ سلبت عينيه السّهاد ، شابا ابتعد عن مواطن التّلف، ومعاقرة المُتَع الرّخيصة، إذّ كيف يرى مباهج الحياة، وكُلّ هذه الأفكار العَكِرة تُزاحم فؤاده ، ألهبَ التفكير رأسه ، لا ينام على فراشِ الطمأنينة ، شيئا فشيئا استطاعَ أن يحمل نفسه على مكروهها ، زرقه الله قلبا جسورا ، وساعدا فتيّا ، وصُحبة أقران ودّوا لو يفتدوه بأعمارهم، كانت القرية تعجّ بحكايا أبناء اللّيل من المَنصرِ وحيل قُطَاع الطّريق، افتتنَ صاحبنا بتلك السّيرة، مع الأيام استخفتهُ أن يتردّى في حمأةِ الطريق ، تلاقت أمانيه وأمانيّ الرِّفاق ، لحظة وجدوا في اندفاعهِ سلواهم ، فلا إله عنده إلّا كبريائه وقوة بأسه لم يمهله زمانه طويلا ،سلّمته يد الحكومة جُنديا يُقاتِلُ في حربِ فلسطين، قال “زينهم” الحلاق : كان إنسان عينه أصفر كالكهرمان، يرى في ليله رؤيا نهاره ، لم تخيب له رمية ، لا يشقّ له غُبار بين صفوف المقاتلين، في تلك الأجواء المشحونة ، أَلِفَ السلاح ، عشق أزيز البارود ، استمرئ رائحة الموت، ومنظر الأشلاء ، خَلَعَ عنه الرّحمة خلع ثيابهِ وأرديته، انتهت الحرب ليعود صاحبنا واصلا ما انقطع ، مشحونا يخوض معترك الحياة ، وقد سَفلت مساعيه وتبدّلت أخلاقه، يسير في ظلمةِ داجنةٍ من الكراهيةِ، كراهية الضّعف والضعفاء مغلولي الأيديّ ، كراهية الماضي الذي دفن سيرة والده وحرمه عطف أبوته ، عادت ترنّ برأسه من جديد حَكَايا أبناء اللّيل لصوص الغيطان، عملٌ بسيط مضمون النتائج ، مع رجلٍ تَخَلّى عن قلبهِ ، رجلٌ أكبر همه أن يجد ما يسحق بهِ انهزامه ساعة يرى الشّماتة في عيونِ النّاس ، يستصرخ ضعفه ويلعنه ، يستحثه كي ينشط ويأخذ بثأر والده المغدور ، شهورا قلائل كافية لأن يذاع صيته ، ويتناثر دخان بندقيته ليعبق الزِّمام ويُزكم الأنوف ، انقسم فيه النّاس بينَ متربّص يُريدُ الخَلاص، ومُعجبٌ ودّ محالفته والاستفادة من طموحهِ، رويدا فارت عروقه بدماءِ الطّيش والتّهور ، ما إن يحلّ المساء حتى ينزوي بينَ حقولِ الذّرة وحيدا؛ يبكي آلام نفسه المُشتّتة، سريعا ينزع نفسه عن أحزانها فيهجم برجالهِ ينهب الحقول، وينقب الجدران، ضَاقَ وجهاء النّاحية بهذا اللّصِّ العتيد ، بعد إذ باءت محاولات القضاء عليه بالفشلِ الذّريع ، لم يجدوا غيرَ مساومة بعض رجاله، الذين وجدوا في العرض فرصة سانحة، تخلصهم من صاحبهم الذي أصبح عبئا ثقيلا ، جدّ القوم في مخططهم ، وفي إحدى غزواته كمنوا له ، استطاعت رصاصة طائشة أن تجد طريقا لرأسهِ فتردى قتيلا، شَاعَ الخبر فانداحت البيوت بالزغاريد، خَرَجَ الأهالي بالمشاعلِ يُعاينوا رمّته، لكن المفاجأة أذهلتهم لم يجدوا للجثةِ أثر ، تسللّت قبلهم والدته ، فحملته فوقَ حمارها واختفت ، تَضاربت الروايات، لكنها اجمعت على أن إصابته لم تكن مميتة ، وأنّه لا يزال حَيّا يُرزق ، اقسمَ ” عليوه ” بائع الغلال برأسِ أمه ، لقد لمحه في ميدان رمسيس بالقاهرة بجوارِ عربة فول ، من ساعتها والقرية لا تنام إلّا على كابوسٍ مروّع ، ينتظروا عودة ” ابن اللّيل ” كي ينتقم من خصومه .