أدب

غدر الأيام.. قصة قصيرة

متولي بصل – مصر
عشرون عاما مرَّت مثل حلم جميل، عشتها في كنف الرجل الطيب الحاج ” طاهر ” الذي كان يعاملني كأحد أبنائه، فلم أشعر يوما أنني مجرد عامل عنده، ورغم أنني كنت واحدا من بين حوالي مائة وخمسين عاملا يعملون في المكتب أو المعرض أو المصنع، إلا أنني كنت الوحيد الذي اختاره للقيام بأهم وأحب عمل إلى قلبه، فكان يكلِّفني بتوزيع مبالغ مالية كل شهر على الأرامل والمطلقات والمحتاجين، الذين تم بحث حالاتهم، وإعداد كشوف بإسمائهم؛ فكنت أحمل الأمانات وأوصلها لأصحابها في بيوتهم سرا، ونتيجة لذلك اكتسبت صداقات كثيرة مع أناس يُعتبرون بحق الطبقة المعدمة، أو الذين يطلقون عليهم الفئة الأشد احتياجا، ومن العجيب أنني اكتشفت من خلال حديثي مع بعضهم أن الكثير منهم كانوا فيما قبل ميسوري الحال، بل إن منهم من كان يوما من طبقة الأغنياء!
لم أُقصِّر في عملي السرِّي قط طيلة عشرين عاما، وكنت سعيدا جدا به، الشئ الوحيد الذي كان يُنغِّص عليَّ حياتي هو ذلك السر الخطير الذي خبَّأته داخل قضبان صدري، ولم أُطْلع عليه حتى أمي وأبي، فقد كان الحاج يعطيني كل فترة مبالغ كبيرة من المال، غير المبالغ الشهرية المدونة في الكشوف، ويقول لي :
– يا نبيه يا ابني ربنا سبحانه وتعالى أكرمنا في هذه الأيَّام، والأرباح زادت بشكل كبير والحمد لله، خذ يا حبيبي هذه المبالغ، ووزعها بمعرفتك على الفقراء والمساكين من أهل الحي الذي تعيش فيه !
– يا حاج الأمانات كل شهر تصل لأصحابها، والكشوف تمام.
– لا يا ابني! هذه الأموال خارج الكشوف، وزعها أنت بمعرفتك، طالما ربنا رزقنا من غير حساب، نعطي من غير حساب أو كشوفات.
– حاضر يا حاج، ربنا يوسعها عليك، ويزيدك من نعيمه !
لكنني لم أكن أوزعها، بل كنت أضعها في الحساب الذي فتحته باسمي في أحد البنوك، وكنت قد فتحته خصيصا لهذا الأمر! لا أدري كيف طوَّعت لي نفسي أن أفعل هذا !
ومرَّت السنوات، ورصيدي في البنك يزداد بصورة كبيرة، في نفس الوقت الذي كانت فيه حِصتي من النوم تتناقص بصورة كبيرة أيضا؛ حتى أصبح الأرق رفيقي في معظم الليالي .
وفجأة، وبطريقة لا تحدث إلا في أفلام السينما، أو مسلسلات التلفاز، قُبض على الرجل الطاهر؛ وتم الحجز على جميع أمواله وممتلكاته! واختلف الناس في أسباب ذلك؛ فمنهم من يقولتهرُّب ضريبي، وعليه مبالغ هائلة للضرائب، ومنهم من يقول تهريب آثار! ومنهم من يقول تجارة مخدرات ! والعجيب أن الكثير من الناس صدَّقوا ما يُقال، حتى هؤلاء الذين كان يعطف عليهم، ويمنحهم حصصا من ماله!
مرَّت الأيامُ ثقيلة عليَّ وأنا أرى وليَّ نعمتي، وصاحب الأيادي البيضاء عليَّ وعلى الكثير من الناس يسقط هذا السقوط الرهيب!
وبعد فترة خرج من السجن، لكن بعد أن فقد كل أمواله وأملاكه! وتدهورت حالته الصحية، وانتقل مع أسرته إلى شقة متهالكة في حي شعبي فقير!
عندما ذهبت لزيارته، ورأيت ما آل إليه حاله؛ حزنت كما لم أحزن من قبل، وفرح هو كثيرا عندما رآني، لم يصدق عينيه، لا سيما وقد تخلَّى عنه الجميع، قال لي :
– أصيل يا نبيه، أصيل يا .. يا ابني!
وضعت بين يديه حقيبة كبيرة، وقلت له، وأنا أمسح بكم قميصي دموعي:
– مالك يا حاج!
– أي مال يا ابني ؟!
– المال الذي كنت تعطيه لي لأوزعه على من يستحق .
– لم توزعه! حبست المال يا نبيه ولم تعطه لمستحقِّيه ؟!
– ادَّخرته لمثل هذا اليوم، خذ مالك يا حاج، فأنت أحق الناس به!
– ربما لو كنت وزَّعته يا ابني كان ربنا صرف عنَّا هذا البلاء الذي نزل بي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى