الصوفية  في ديوان ” أنا ” للشاعر الفلسطيني سليمان دغش

بقلم: رائد محمد الحواري

في هذا الديون يقدم لنا الشاعر حالة من التصوف، حالة من التوحد، بطريقة غير مألوفة، بطريقة فلسفية، ما يجعل  المتلقي يقف متأملا النص وما فيه، استخدام التراث الديني إن كان مسيحيا أم إسلاميا يثري النص ويعمق الفكرة ويحررها من  التقوقع على ذاتها، فالنص الشعري عابر للمعتقدات الدينية كما هو عابر للجغرافيا، فهو نص إنساني، وهناك رمزية يمكننا اسقاطها على الواقع الفلسطيني مما يعطي الديوان تلاقي مع الواقع الذي يعيشه الراوي/الشاعر، فهو أولا وأخيرا ابن جغرافيا محددة وعليه أن ينطلق منها إلى الآخرين، من هنا كان مدينة القدس حاضرة في النص، الديوان بكل تجرد يمثل طرح مميز استثنائي، قدم بلغة واسلوب فني رائع، ويمكن تناوله في مرة واحدة، والتقدم منه أكثر من مرة، لما فيه من أفكار أعمق من أن تظهر/تبين ما فيها من المرة الأولى،  وأيضا للمتعة الفكرية ولجمالية اللغوية التي استخدمها الشاعر في ديوانه “أنا”.

هناك علاقة بين العنوان ومضمون الديوان، “أنا” هي ذات الشاعر/الراوي، فهو يتحدث عن نفسه، عن ذاته، ولهذا نجد النص عميق الفكرة، وكأنه الراوي يخرج/يظهر لنا ما فيها، أي يقدم لنا ذاته كما هي، فنحن بالنسبة له أقرب الأقربين، /أصدقاء/أهل/احباب، ولهذا وجدنا النص قريب منا، فالمتحدث فيه هو صديق وحبيب لنا.

هناك العديد من أشكال التوحد يقدمها الراوي في الديوان، منها:

 وَفي يَدي مِفْتاحُ سرِّ الماءِ

قالَ الماءُ كُنِّي ، كُنْتُ

لا وَهْمٌ عَلى مِرآةِ يَمِّي

ذاكَ نَجْمي

في مَرايا الماءِ يَهْمي

وَسِراجي في يَدي البَدرُ التَّمامُ

أَنا الإمامُ

مثل هذا التماهي مع الماء، المكون الأساسي للحياة، والذي بدونه لا يمكن أن نحيا، فالراوي يجد ذاته فيها الماء، فهو والماء كيان/شيء وحد، جسد واحد، وهما والحياة شيء واحد، متداخلان/موحدان معا، كلا منهما يكون الأخر.

فالماء ليس شيء عادي عند الراوي بل شيء مكمل له، شيء منه وفيه يكون:

” مُتَيَّمٌ بالماءِ حدَّ الماءِ”

وهناك صورة مركبة للعلاقة بين الراوي والماء

” رَأَيْتُ نَفْسي في مَرايا الماءِ

صارَ الماءُ سَتْري وَحِجابي

وَسُؤالي الأَزَليِّ

قُلتُ لِلماءِ : تَوَحَّدْني

وَوَحِّدْني

فَوَحْدي بَيْنَ ماءَيَّ انْكَسَرتُ

ما الذي يَجْعَلُني حَيّاً عَلى مَرْمى مِنَ الماءَيْنِ

لا تَكْسِرُني الرّيحُ إِذا انْكَسَرْتُ

لا تَأْسُرُني الرّوحُ إِذا انتَصَرْتُ

في نَفْسي

عَلى نَفْسي

بِنَفْسي

وَتَصالَحْتُ مَع الضِّديْنِ

وَالنِّديْنِ

كُلُّ شَيءٍ ضِدُّهُ فيهِ

وَضِدُّ الماءِ في الماءِ الوِئامُ

 هذه الصورة التي تأنسن الماء، من خلال “ستر وحجابي” فهي هنا كائن حي يعمل على الحفاظ/حماية اراوي من الآخرين، ونجد له صفة السمع أيضا، من خلال الحديث معه “توحدني ووحدني” ثم يقوم بما طلب منه فيلبي الطلب، “فوحدني” وبعد هذا التوحد يأخذ الشاعر صفة التكيف/امتصاص الصدمات “لا  تكسرني الريح” والتحرر “لا تأسرني” وجعل الصراع/التناقض بين الشاعر/الماء وبين الآخرين مسألة طبيعية، فهم يكونون بهذا التباين والتناقض حالة طبيعية، تعمل حسب قانون الجدلية “وحدة وصراع الأضاد”، فلا  أحد منهما ينتصر ينهي الآخر، وكأنهما يمثلان الصراع السرمدي بين الإله “بعل/نموزي” وبين الموت الذي تحدثت عنه الاساطير السومرية والكنعانية.

           بعد هذا التوحد والانصهار بين شخص الشاعر وعنصر الماء،  ينتقلا إلى حالة جديدة، حالة أقرب إلى  اللاهوت أقرب منها من الناسوت، :

” بَدأْتُ مِنْ كُلٍّ وَفي كُلٍّ إِلى كُلٍّ

أَنا الكُلُّ الَّذي لَمْ يَتَجَزَّأْ

وَأَنا الفَرْدُ الذي يَكْمُلُ في الكُلِّ

أَنا مَنْزِلَةُ الواحِدِ

مِنّي يَبْدَأُ العَدُّ

وَمِنّي يَبْدَأُ المَدُّ

أَنا العِلَّةُ وَالمَعْلولُ بِالعِلَّةِ

بي يَكْتَمِلُ الكُلُّ

أَنا العَقلُ

أَنا الواحِدُ وَالزّائِدُ وَالفائِضُ عَنْ حَدّي

أَنا السيَّدُ وَالسّائِدُ وَالواعِدُ وَالمَوْعودُ وَالوَعدُ

أَنا العَهْدُ

أَنا الشّاهِدُ وَالمَشْهودُ

فَاشْهَدْني تُشاهِدْني

أَنا الأَزْهَرُ لا أَظْهَرُ إَلاّ

حينَ يَشْتدَّ عَلى الأُفْقِ القَتامُ”

 حالة التمتاهي بدأت بالحديث عن كائن بشري، “أنا الفرد” لكن هذه البداية أخذت في النمو والتفاعل بحيث لم تعد هي ذاتها، بل شيء/عنصر جديد، له كينونته الخاصة وتأثيره/تفاعله مع الأخرين والأشياء بشكل مغاير لما كان عليه، “أَنا الكُلُّ الَّذي لَمْ يَتَجَزَّأْ” وهذا الكائن ضرورة حيوية وحتمية لوجد الأشياء الأخرى، “وَأَنا الفَرْدُ الذي يَكْمُلُ في الكُلِّ” بهذا التصاعد والتطوير الذي بدأ من بعد أن توحد/تماهي/انصهر الشاعر مع الماء يتم الانتقال من حالة إلى أخرى أكثر تطورا وفاعلية وتأثير على الأشياء والعناصر والكائنات، حتى يقترب من صفات الإله

“مِنّي يَبْدَأُ العَدُّ

وَمِنّي يَبْدَأُ المَدُّ”

 فجعل الذات هي مشكله علم الحساب، ومنزلة الخير صفة مختصة بالإله وليس بما هو إنساني، بمن هو مخلوق، كائن موكون وليس يمكون، لكن الشاعر عندما تماهي/توحد أنصهر مع الماء كان هذا الشيء/الكائن الذي يحمل صفات وقدرات الإله.

ثم يبدأ الحديث عن افعال واعمال مختصة بالإنسان تحديدا،: ” أَنا العَقلُ” وهنا يأخذ الأثر/الحاجة/التفاعل الذي يحدثه (الأنا الجديدة) في الآخرين صفة التعقل/التفكير/التأمل وكأن النفس الجديدة، تريدنا أن نتقدم من العقل وتدعونا للعمل به، فهو من يقدر على فهم واستيعاب وتحليل ومعرفة ما يجري/ما حدث وما سيحدث.

بعد عملية التعامل مع العقل والعقلاء يبدأ العنصر المشكل، العنصر لجديد (العقل) على التعامل/لحديث معنا بلغة غير عادية، لغة فلسفية لا يستطيع فهمها إلا من هو إنساني، إلا من هو عقلاني، فبقول لنا:

” أَنا الواحِدُ وَالزّائِدُ وَالفائِضُ عَنْ حَدّي

أَنا السيَّدُ وَالسّائِدُ وَالواعِدُ وَالمَوْعودُ وَالوَعدُ”

 الحديث هنا متعلق بالكائن المشكل/الجديد ومضاف له العقل أيضا، فهما اصبحا كائن واحد، شيء واحد، فهو يحمل صفة النبع، الذي لا ينضب، من هنا وجدناه يأخذ صفة الزائد والفائض، وهما صفتان متعلقتان بالماء، وأيضا متعلقتان بالحكماء، الذين يمنحون المعرفة والحكمة هو فرحون بهذا العطاء، وأيضا لا تنضب معرفتهم، بل تزاد وتتنامى أكثر.

ونجد صفة السيد والسائد” ايضا لها ارتباط بالعقل والعقلاء، حيث أنهم بالمعرفة والحكمة يسيدوا وما بعد عصرهم وزمانهم، فحكتهم باقية بقاء الإنسان على الأرض.

الشاعر ينحاز للمكان المقدس، للمكان الأهم على وجهة الأرض، ينحاز للقدس، لكنه يقدم هذا الانحياز بشكل جديد، غير مألوف، فيقول:

” فَاقْرَئيني

آهِ .. يا أَيَّتُها الأَرْضُ التي تَشْرَبُ مِن دَمّي

لِكَيْ يَكْبُرَ عُشْبُ اللهِ في خُضْرَةِ عَيْنَيَّ وَفي ظِلِِّ جُفوني

وَاتْبَعيني

لَكِ ظِلِّي.. اتَّبِعيني

إِنَّ في المِرآة شَكاً أبَدِيّاً

وَدَمي وَحْدَهُ مِفْتاحُ يَقيني

كُلَّما بَدَّلتُ قُمْصاني عَلى عُرْوَةِ روحي

مَسَّني البَرْقُ الإلهيُّ عَلى صَخْرَتِهِ الأولى

وَناداني إِلى القُدْسِ حَنيني

فَرَمى مِنْديلَهُ الأَبْيَضَ في روحي

وَناداني السَّلامُ”

 جعل الشاعر الأرض تأخذ احدى صفاته، وتتماثل معه في التكون ـ الماء ـ لكنه جعلها تشرب دمه، فهي تعيش بها القربان الإنساني، وتزدهر به، وهذا الدم هو مفتاح للحكمة والمعرفة، ورغم اللون الأحمر، القاسي والصعب على العين، إلا أنه في جوهرة/نتيجته تكون باللون الأبيض والذي يشير إلى السلام وليس إلى الحرب والخراب، وهذا التشكيل الجديد للدم، يتماثل ما التشكيل الذي حصل بين الراوي/الشاعر والماء، فهنا كان التفاعل والتوحد والتماهي بينه وبين  الأرض، من هنا تم تشكيل/خلق عنصر جديد.

هناك تراث ديني في الديوان، يطفى عليه لمسة من التسامح والتآلف بين الأفكار والمعتقدات الدينية، فبقول عن الإسلام:

“عَبَرْتُ مِثْلَ الرّيح ِ مِن مائي

إِلى مائي

وَفي كَفّي النَّدى

فاسْتَوْقَفَتْني خَيْمَةُ ُالبَدْوِ التي

طافَتْ عَلى زَيْتِ الخَليجِ العَرَبيِّ

صِحْتُ : يا سَلْمانُ(*2 )لا خَنْدقَ حَوْلَ القُدسِ

وَالخطّابُ مَصْلوبٌ عَلى عُهْدَتِهِ

هَلْ مِنْ نَبِيٍّ عَرَبِيٍّ يَرْفَعُ الأذانَ

في الكَعْبَةِ فَجْراً

ثُمَّ يُسْري في رِداءِ الوَحْيِ لَيْلاً

مِثْلَما أَسْرى بِثَوْبِ الماءِ

في الغَيْمِ الرِّهامُ”

 استخدم الشاعر التراث الديني الإسلامي لكي يتقدم المتلقي من جيد نحو الهدف، القدس، فهي ومكة تجتمعان في القدسية، ولا يمكن الفصل/العزل بينهما، وساخد الشاعر لفظ “أسرى” لكي يربط المتلقي بالآية القرآنية التي تحدثت عن الأسراء، وأشار إلى عدم حمايتها من خلال قوله “لا خندق” وكأنها بهذا القول يريد/يطلب الحماية والمنعة لها، فهي ضعيفة مستباحة من الآخر العدو.

ويستخدم الشاعر أيضا التراث الديني المسيحي بعين الطريقة التي استخدم فيها التراق الديني الإسلامي، وكأنه يردنا أن نجمع ونوحد بين هذين الدينين، وأن نتعامل معهما كعقيدة واحدة،

” كانَ الماءُ في البَدْءِ

وكانَ الروحُ في السُّبْحَةِ مِثلَ الرّيحِِ

فانْثالَ عَلى الأَرضِ الغَمامُ”

فهذا تناص مع ما جاء به سفر التكوين الذي جاء فيه:

“1 في البدء خلق الله السماوات والأرض

2 وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه

3 وقال الله: ليكن نور، فكان نور” فالشاعر ارادنا التقدم من الفكر الديني بنفس المسافة، فهو دين للإنسان، وعليه أن يتعامل معه من هذا المنطلق الإنساني.

الديوان منشور على النت، ويمكن الحصول عليه من خلال كتابة أسم الديوان “أنا” سليمان دغش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى