المندرة

 يكتبها: محمد فيض خالد

عَكَفت لأزمنةٍ مصونة مقدسة، كهيكلٍ من هياكلِ الآلهة العِظام، لا تمسّ بسوءٍ، ومن يفعل ذلك يَلقى أثاَما، ساكنة في وقارها، تَشخص حيطانها بألوانها الزّاهية ونوافذها المُشرّعة، وأبوابها التي يلج عبرها سَدنتها زُمَرا وفُرادى كبارا وصغارا ليل نهار، ما إن تطلع الشّمس؛ فتَطبع أولى قُبلاتها على جبين الأرض، حتى تأخذ “المندرة” زينتها مُتزينة ، تُكنس أرضيتها، وتُرتّب “الدّكك” إيذانا لخُيوطِ شمس الضُّحى الفاتر أن تدخل على استحياءٍ ، ولولا أنّها مأمورة ما تَجرّأت. قَالَ العجائزُ في تأسيٍ :” كنّا نسمع ضحكاتها عذبة كأنّها رنين الذهب “، بينَ حيطانها دارت كؤوس الشّاي، تُسكِّر بنشوتها عُقولَ الزَّائرين ، وفِي حِماها فاضت الحَناجر وتلاحمت الأجساد عداوة وبُغضا، وتصافحت الأيادي وتناجت القلوب صَفاء ومحبة، خَطَبَ ودّها كُلٍّ طالب وجاهة، وراغب زعامة، يحكي “فرج” الخياط عجبا:” رأيتُ بأمِ عيني، كيفَ امتلأت المندرة بالرِّجال وقت الانتخابات، حتى ضجّت جنباتها خطبهم الرَّنانة تهزّ حبات القلوب “، أولئك اعتقدوا أنّ مقاديرهم بيدها، فأكبروا شَأنها، يَلوذوا بحِماها، كفقيرٍ لا يملك من نَشَبِ الدُّنيا وثَروتها ، لا تزال القريةِ في زفراتِ الألمِ تُردّد المعركة الطاحنة بين “أولاد مدكور” وعزبة “بديع”، حدّق “زينهم” بعدما تمشّى الارتعاش فيه، اطفئ عقب سيجارته ، وقد تبدّت سورة غضبه: ” أوسعناهم ضربا ، قلتنا يومها عبدالشافي، كانَ يظنّ أنّه فتوة الملقة وابن ليلها ، ضربته بهراوة فَخَرَ كالعجلِ يَتَخبّطُ في دمهِ الزِّفر”، قهقه مغمضا عينيه ، تتزاحمُ عليهِ الأيام يتلو بعضها بعضا ، ثم غَاصَ في سُكونٍ كمن حَرَكَ ما كَادَ يندمل من شجونهِ، يتزاحم من حولها شريط الذِّكريات كطير أبابيل ، تسترحم ” نوّارة” الدّاية أيام عِزّها الغابر، صَكّت وجهها بطرفِ حرِامها القطني، قائلة في تنهد :” خَطَبني زوجي الأول محروس الكلاف في المندرة، جاءَ بأهلهِ، واتفق الرِّجال على كُلّ شيء ، انطلق موكب العُرس يحملني إليهِ من أمام بابها”، هَبّ ” مسعود أبو حطب ” هبّة وابور الجاز مُنتفضا في حَماسٍ، ضَرَبَ الجدار بكفهِ مُتَحدّيا:”كانت المندرة عزوتنا ، لَم يكن في المجاورةِ أختها ، هي احَنّ علينا من أمهاتنا، كستنا زمنا ثوب المهابة، احترمنا الكبير والصّغير ، حسبوا لنا ألف حساب”، سادت مجدا أجدعَ أنف الدّهر، تتوارى في حِجابِ الأفقِ البعيد شامخة ، ترفلُ في ثوَبِ العِزِّ والجّاه، يقصدها كُلّ من تجرّع غصص الحياة ، انجذب إليها كُلّ شحاذٍ ومحتاج ، كما الشّمس تبهر العيون ،أضحت قلبا يعرِف الرّحمة ، تُورِقُ فيها أغصان الإحسان ، جنة أنزلت الأرض فيها ما تشتهي الأنفس، مُدّت الموائد وأُفرغت العَطايا ، تجبر قلب كُلّ حسير. تراخت الأيام ، لتذوب ذوبان الثّلج تَحتَ همس الرَّبيع ، فعلت بها أيادي الزَّمن العابث فعلتها، فتبدّلت الأرض غيرَ الأرض، كَأُمنيةٍ بدت لحَالِمٍ، تهدّمت حيطانها ، وتآكلت نوافذها، وخرّ بابها ساجدا مُستَسلما لبطشِ الدّهر الغَاصِب وجبروته، انتهكت حُرمتها هوام الأرض تعبث بكرامتها ، انتظرت وصلا بعد طولِ هجران، طَاَلَ الانتظار، حتى صَحَت القرية على ركامٍ من التّرابِ تطأه أقدام السّابلة ، لم يحفل بها أحد ، اللّهم إلّا دموع “خليل” الخفير تَبكّ من مدامعهِ ، يشيّع العمال الذين اعملوا فؤوسهم في الأنقاضِ ، يغنوا فرحا وابتهاجا ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى