شهادتي حول رواية زرعين

د. صافي صافي | فلسطين

لم أخطط لكتابة هذه الرواية “زرعين”، وهي ليست الأولى كذلك، فـ”الحاج إسماعيل” (1990)، جاءت وقت مرض أبي ووداعه، و”الحلم المسروق” (1991)، جاءني مخاضها وقت منع تجول حرب الخليج، و”سما ساما سامية” (2010) كتبت في سياق تحولات عاطفية متلاحقة، ورسالة من عاشقة “في يوم غابت”، و “الباطن” (2017) كانت بعد قراءة “كافكا على الشاطئ” لـ “هاروكي موراكامي” الأكثر شاعرية وتخيل كما أعتقد.

وما زالت مشاريعي المخطط لها، لم تكتمل، مثل “حين عبرنا الجسر” المعارضة لعبد الرحمن منيف، و”الهطلة” الرجل الأهطر الذي يشغل العائلة في قضايا هامشية، و”أحلام مراهقة” في أطراف رام الله، وغيرها.

لم تكن “زرعين” ضمن مخططي الروائي، لكن تلك الرحلة في شهر شباط قبل عامين، كان العامل الحاسم، زرنا فيها عين جالوت، وجبال فقوعة، وزرعين، وكنت بالفعل قد تزحلقت، والتوت رجلي اليمين، وتمزقت أوتارها، وكنت بالكاد أمشي، إلا أني لم أعط ذلك وزناً كبيراً في الرواية، فالأخطر كان “ضياعنا” (أربعة من الفريق) فوق إحدى تلال سلسلة الجبال، وعدم قدرتنا على الخروج، “انعمت أقمارنا”، ولم نعد قادرين على التفكير المنطقي، وقام أحدنا “جمال” بإبلاغ الشرطة لنجدتنا، كما جاء في الرواية.

مكثت في البيت طويلا مع حلول “كورونا”، ومن عدم قدرة على المشي، بل أصبت بعدة نكسات عضلية، من شد عضلي، أقعدني لشهور. حاولت أن أقرأ كتب بعينها لمساعدتي في إكمال مشروعي الكتابي ولم أستطع. حاولت أن أتابع أفلاما سينمائية علها تكون منقذة لي، ولم أستطع، واستقر مزاجي أن أكتب عن المسار المذكور.

صاحبت محرك البحث “جوجل” لإعادة رسم خريطة مسارنا، واستعنت بجغرافيين، وبفيديوهات عن أصحاب المكان، وبمنصة “فلسطين في الذاكرة”، وبالموسوعة العنكبوتية، وبالصور التي التقطتها، علني أعيش الأجواء من جديد. استغرق ذلك مني وقتا طويلاً. وبت أخطط شفوياً لبدايات الفصول، إلى أن توصلت إلى جملة “لم نكن نقصد ذلك”، لكني وجدت الرواية ستبدأ بالنفي، وكأنني في حالة دفاع عن النفس، أو مبرراً لما حدث. لم أرتح لذلك، ومن الصعب أن أظل أفكر بالبدايات، قلت في نفسي، لأبدأ من أية نقطة توصلني للحلقات الأخرى، فكان أن خططت جملة فصل “زرعين” “أقف على رأس التلة، العتمة تلفنا من كل جانب، أضواء بيسان لا تبعد عنا أكثر من مئات الأمتار”، وجدت ذلك أنه حسن، فأحسنت أن اختار فصولا أخرى، بالمعنى نفسه، فاخترت شخصيات لم تكن في البال “جمال المقدسي”، “أبو ماهر” الزرعيني، “أبو نهاد” العمواسي، “حنان” البيسانية، وكانت بدايات الفصول متشابهة، ومتكاملة، تبدأ من نهاية الأحداث تقريباً، إلا أبو ماهر، الرجل الذي جاء يدفن رفات أبيه في قبر جده في زرعين: “في نهاية المسار، وبعد أن تأكدنا أننا نجونا” (جمال)، “أبو ماهر يدور حول الحافلة، وكأن فيها كنزاً دفينا” (أبو ماهر)، “ربما لو لم يكن وجود أبو نهاد في المسار بيننا، لما وقعنا في هذه الأزمة” (أبو نهاد)، “لم أعرف أني سأزور بلدتها، أو سأكون على مشارفها، بيسان” (حنان)، “أقف على رأس التلة، العتمة تلفنا من كل جانب، أضواء بيسان لا تبعد عنا أكثر من مئات الأمتار” (زرعين).

ما دمت قد كتبت فصولا خمسة، فلم أعرف أيها سيكون الفصل الأول من الأخير، وأيقنت أني كيفما رتبتها، سنصل للمعاني نفسها (ليس بالضبط)، وتذكرت كلام أستاذتي (دع القاريء يرتبها كيف يشاء، فهي مثل الحلقة المتصلة، ستصل به إلى القمة، أيا كان الباب الذي دخل منه)، وهكذا كان.

أما لماذا اسمها “زرعين”؟ هكذا. لأنه جميل، كنعاني، أصيل، ومنه انطلقت الأحداث. الأحداث؟ في الواقع لم يكن سوى الوقوف على رأس التلة هو الحقيقي، أما الباقي فهو من الخيال، وأحببت ذلك.

عرضت المخطوطة على مجموعة من الأصدقاء، وسعدت بملاحظاتهم المشتركة دون أن يعرف الواحد/ة بالآخر/ الأخرى، وقد رأوا أن تحتل “حنان” مكانة أعلى، ليس فقط في الفصل المعنون باسمها، ولكن منذ بداية الرواية، وكان ذلك، فهم/ن أرادوا/ أردن أن يكون خيط الرواية متصلاً من أولها إلى آخرها. شعرت بالسعادة و د. وفاء تشير إلى فقرات بعينها، وأضمن طلب حنان البيسانية الزرعينية بزيارة بيتهم، لتعيش على ظلال صورة أسرتها في بيتهم الذي ما زال قائماً هناك.

وفي الشهر السادس من الكتابة، تأملت فيما فعلت، ووجدت ذلك أنه حسن، وفي الشهر السابع ارتحت.

ليس تماماً، بل ارتحت كلما كتبت فصلاً، وكلما اكتملت الفصول، وكلما سمعت رأياً. ارتاح قليلاً ثم أعود للنص المكتمل، لكني الآن غير مرتاح تماماً، وأحلم أن يرتاح القراء، لأبدأ الفصل الجديد من حياتي.

كان بودي من قبل أن يحتل أبو ماهر جوهر القصة، فله مكان في قلبي، فأبي كان يوصي من وقت لآخر أن يدفن قريباً من قبر أبيه، وقبري أخويه، تلك التي ما زال بعض بنيانها قائما، رغم الخراب المقصود منذ أول زيارة، ولم نفعل، ولا أعرف أن أحداً فعل ذلك. وأخي الغائب عن البلاد منذ أواسط الستينيات في أوروبا، يوصي بذلك، يوصي أن نجمع رفاته في أوروبا، ونأتي به، وندفنه بين أجداده، أو ننثره في البحر. فماذا نفعل؟ هل هذا النوع من الوصية ملزم لنا شرعاً. وما هي وصيتي؟ هل تكون بالمثل؟ كان بودي أن يحتل أبو ماهر جوهر القصة، أو أن تكون له رواية منفصلة. لكن حنان أخذت المشهد، وضمت في ثناياها شخصيات الرواية كلها، والمكان زرعين، وما زال اسمها زرعين، وقبور أهلها الذي كانوا، وذكريات لأجيال.

لم أكتب الرواية التي خططت لها، فزرعين، أخذت بعض نصيبها، وآمل أن أرجع لأجواء شتاء رام الله، وأحلام مراهقة، وعشق بريء، بريء جداً، وجدا جداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى