رسالة إلى وزارة التربية والتعليم الفلسطينية.. نظرات تربوية في قصيدة ” أنا وليلى “
فراس حج محمد |فلسطين
يعتمد جهاز التربية والتعليم- عادة- على الأدب ونصوصه المختلفة قديما وحديثا، ومن ثقافات متعددة، لتكون تلك النصوص مادة تعليمية، توفر للمتعلم محتوى تعليميا تتخلله المعارف والمهارات والوجدانيات، ولذلك اكتسبت النصوص التي تدرس في المدارس أو في المعاهد أو في المؤسسات الخاصة ذات الصلة صفة “الكلاسيكية” المشتقة أصلا من “class” بمعنى صفّ، وبهذا يجب أن تكون تلك النصوص مؤهلة لأن تكون مادة تعليمية تراعي تلك جوانب التي يرعاها الجهاز التربوي في الدولة أو في المؤسسة، ولذلك من الضروري اللازم جدا أن تخضع هذه النصوص إلى المحاكمة، وإلى التنخيل النقدي للوصول إلى مادة تحقق الجوانب الثلاثة المقصودة في عملية التعليم.
ولذلك يجب- مرة أخرى- ألا تخضع هذه النصوص إلى الذوق الشخصي لأحد أعضاء فريق التأليف، فحبه للقصيدة أو لألحانها لا يؤهلانها لأن تكون مادة تعليمية، فالمقررات الدراسية ليست هي المكان المناسب لتحقيق الشخص رغباته، فما عليه إلا أن يؤلف كتابا يجمع ما طاب له من نصوص، ويحقق أمانيه بعيدا عن المقررات الدراسية.
لقد اعتنى أسلافنا من المربين بنوع معين من النصوص لتكون نصوصا دالة على الأمة في لغتها وحضارتها وثقافتها، ولعل أول مقرر دراسي تم وضعه من أجل أن يكون محتوى تعليميا هو انتخاب مجموعة من عيون الشعر العربي ليؤدب بها المؤدبون أولاد الخلفاء، فكانت “المعلقات” أول مقرر دراسي عربي وجد من أجل هذا الغرض، وليس- كما قيل- إنها قصائد علقت على أستار الكعبة لنفاستها، هذا الخبر المدسوس في كتب الأدب وصدقناه، وسوّقنا المعرفة المغلوطة إلى أبنائنا على أساسه. ثم وظف المؤدبون والمعلمون العرب والمسلمون القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف بجانب قصائد مختارة بعناية من الشعر العربي لأغراض تعليمية وتربوية. وزخرت كتب التراث بملحوظات كثيرة عن مواصفات تلك النصوص المعتبرة والمعتمدة في عمليات التأهيل التربوي للأطفال، وأُلّفت في ذلك كتب وأبحاث متعددة.
هذا أساس مهم ومتفق عليه في عملية اختيار نصوص التعليم الأدبية والعلمية والفكرية، ومع تطور الفكر التربوي التعليمي صار لزاماً على عملية الاختيار هذه أن تراعي جملة من الأوصاف التربوية التعليمية حتى تكون مؤهلة لتكون محتوى تعليميا، ومن ذلك:
أولا: مراعاتها لحاجات المتعلم المعرفية والمهارية والوجدانية بحيث تكون مدخلا طبيعيا لتنمية شخصيته في هذه الجوانب الثلاث، وتتماهى مع شعوره وعقله، وتحدث لديه التأثير المطلوب بطريقة غير مباشرة، وتربطه بحضارته وعقيدته وحاضره وتجعله ابنا لهذه الثقافة لتحدث عنده نوعا من الاعتزاز والاهتمام بهذه الحضارة.
ثانياً: من الضروري أن تكون تلك النصوص عالية في مستواها الفني والتعبيري (القرآن الكريم والحديث الشريف وجيّد الشعر وممتاز النثر بأنواعه العلمي والأدبي)، بحيث تنمي الذوق الجمالي والأدبي والمنطق العلمي لدى المتعلم، وإلا كانت عاملا منفرا من الأدب والفن والعلم عموماً.
ثالثاً: من الضروري أن تكون النصوص التعليمية ذات أفق نقدي وتفكيري، تدفع المتعلم لأن يأخذ النص إلى ما وراء المعرفة المتضمنة للنص، لأن الهدف من التعليم هو هذا التوجه في التعامل مع المحتوى التعليمي وألا يظل حبيس الغرفة الصفية، فيظهر ذلك في تفكيره وفي سلوكه وفي اختياراته الحياتية.
والسؤال المهم الآن، هل كل ما سبق ينطبق على قصيدة “أنا وليلى” الواردة في نصوص كتاب اللغة العربية في الصف الثاني عشر في المقررات التي “أنتجتها” وزارة التربية والتعليم الفلسطينية؟ (يُنظر: كتاب اللغة العربية (1)، الطبعة الثانية، 2020، ص63).
إن الناظر في القصيدة أولا، أو الأبيات الواردة في الكتاب، وهي (19) بيتا من القصيدة التي غناها كاظم الساهر وكتبها شاعر مغمور وعاشق سيئ الحظ يدعى حسن المرواني، يرى بعد التحليل الفكري والتربوي للقصيدة أن وجودها في المنهاج التربوي للغة العربية سقطة كبيرة، وإشكالياتها التربوية التعليمية كبيرة وبنيوية. فالناظر في القصيدة أولا من حيث موضوعها فإنه لا يستطيع تصنيفها على أنها من الغزل التقليدي العربي الذي درسه الطلاب في الصفوف السابقة، فهل فعلا القصيدة قصيدة غزل؟ وإذا كانت قصيدة غزل فهل هذه هي مضامين قصائد الغزل وأفكارها؟
يجد المرء صعوبة بالغة في تصنيف القصيدة ضمن شعر الغزل، فأي غزل نعني؟ هل الغزل العفيف؟ وأي مضامين له في القصيدة تلك التي تعلمها الطلاب في مادة الغزل العذري؟ وهل هي غزل حسي؟ لقد حدث بالفعل هذا الارتباك في التصنيف بين أوساط المعلمين الذين وقفوا حائرين في تصنيفها، فعمّت الفوضى في ذلك دون أن تكون الوزارة- بجهازها المكلف بذلك- قادرة على حسم الخلاف التصنيفي للقصيدة، لأن القصيدة مربكة في ذلك، وتحدث عند الطالب عدا المعلم هذا الخروج غير المنهجي عما درسه سابقا واستقر في عقله ووجدانه.
إن القصيدة في أحسن أحوالها قصيدة رثاء نفس وتحقير ذات ورسم صورة مأساوية سوداوية جدا لذات الشاعر مليئة باليأس وانعدام الأفق وتدمير الذات، وكل مفرداتها تدور في هذا المحور، فلذلك فإن القصيدة لا ترسم ولا تساعد على رسم صورة إنسانية مقبولة للشاعر العاشق حتى العاشق المهزوم، فالشاعر العاشق الذي عانى من الحب في القصص القديمة الشعرية لم يكن يلجأ إلى هذا الأسلوب من تحطيم الذات وتحقيرها، بل تجد عند الشاعر شيئاً من عزة نفس وكرامة وتوجع إنساني دون أن يجعل الحب نهاية المطاف لحياته كما بين الشاعر نفسه، فالقصيدة كما قال أحد الطلاب فيها مبالغة. وليس مبالغة فقط بل إنها مبالغة ممقوتة ممجوجة صادرة عن نفس شاعر “مراهق” غير متزن أهوج وأحمق كما تظهره القصيدة نفسها، فكيف يربط مصيره بمصير حب رحل؟ أي تفاهة هذه هي التي تصورها القصيدة، إذ الصورة الكلية المستخلصة للشاعر من خلال هذه القصيدة هي صورة سلبية، لو تم تطبيق المناهج النقدية الحديثة في دراستها.
إضافة إلى أن القصيدة لم يكتبها شاعر متمرس في الشعر، أو ذو تجارب في الحياة، بل لا تعدو كونها نفثة عاشق مهزوم أجبرته ظروف الحياة على أن يقع في الحب مع امرأة- كما تقول القصص عن هذا الحب- ثرية، وتزوجها رجل ثري. هنا تنتهي القصة، لتبدأ معاناة الشاعر الذي أحب من طرف واحد، وعلى أية حال، لم يعترف العرب والمدونة الشعرية بشيء اسمه “حب من طرف واحد”، لا شيء من هذا القبيل في التراث العربي، عندها لا تعدو المسألة أن تكون أوهاماً تعشعش في رأس صاحبها، وبطلت أن تكون حبّاً، فمعاناة الشعراء في الصدّ لا تعني بالضرورة أن الحب كان من طرف واحد. ولهذه المسألة تحديدا شرح يطول ليس هذا محل شرحه.
هذه الصورة للحب في القصيدة فيها أكثر من إشكالية عدا الوهم المشار إليه أعلاه، فالقصيدة لا تساعد على تنمية الحس الإنساني الطبيعي في الحب في نفوس الطلاب الذين يتأثرون في هذه المرحلة كثيرا بهذه الأفكار، فتنمية العاطفة ورعايتها أمر ليس سهلا في المقررات الدراسية، وله عدة محاذير، من الضروري أن تكون حاضرة في عقل المؤلف وأدواته التأليفية ومنهجه الفلسفي الكلي الذي يحكم عملية التأليف وبناء المقرر التعليمي.
لم ترسم القصيدة للعاشق إلا طريقا أسود، تدفع الطالب بطريقة غير مباشرة للسير فيه على غير هدى، واتزان، مع ملاحظة أن الطالب في الصف الثاني عشر وهو بذلك في مرحلته الأخيرة على مقاعد الدراسة في المدرسة، وسينتقل بعد أقل من عام إلى الجامعات حيث الأجواء المختلفة والدخول في أغلب الأحيان إلى تجارب عاطفية، فإذا ما اتخذ الطالب تجربة المرواني دليلا وهاديا وعاشت في وجدانه ستكون القصيدة عاملا تدميريا للطالب، سيدخل في عاصفة من الاكتئاب والحزن والوحدة واليأس الذي يدمر أحلامه كلها، ويصبح فاشلا في إدارة ذاته والتعامل معها. وربما دفعته إلى الانتحار، من هنا تنبع خطورة هذا النص عملياً.
والأمر الآخر المهم أن القصيدة في المحصلة النقدية عند التحليل، يجد الدارس لها أن كل أبياتها التي في الكتاب المقرر تدور حول مضامين محددة دون أن يكون للنص تلك الفنية المعهودة عند الشعراء الكبار في توجيه النص لبناء فكرة متصاعدة، بحيث تبنى هذه الفكرة أولا بأول مع كل بيت لتصبح نصا أدبيا تركيبيا تصاعديا برؤية فلسفية عميقة، لذلك فالقصيدة من الناحية الفنية قصيدة رديئة وركيكة، لأنها ذات معجم لغوي غير ثري وغير متنوع، وكل أبياتها تدور في فلك فكرة واحدة، كأن الشخص يدور حول نفسه بحركات بهلوانية غير محسوبة ونفس منكسرة ضائعة وهوجاء لا تحسن التفكير ولا إلى الإصغاء لصوت الحكمة والتعقّل.
لا تدعو القصيدة وأفكارها إلى التفكير فيما وراء المعرفة تفكيرا إيجابيا دافعا للتغيير نحو الأفضل، إذ لا معرفة عميقة فيها، فهي قصيدة ذات معان سطحية مما يدور على ألسنة المراهقين غير المتزنين. وعلى ذلك لا يمكن أن تكون هذه القصيدة، أو ما يماثلها، مادة تربوية تعليمية صالحة لتنشئة جيل واعٍ، قادر على إدارة ذاته وتوجيهها التوجيه الصحيح أو المرْضي عنه في الحدود الدنيا على الأقل، فلا ينزلق إلى العواقب الوخيمة، لاسيما من كان يعاني من الفقر، إذ جل الشعب الفلسطيني وأبناؤه على مقاعد الدراسة في المدرسة والجامعة هم من الفقراء، فكأن القصيدة تقول بطريقة غير مباشرة أن الفقير لا يحق له أن يحيا، ولا أن يحب، ولا أن يتعلم، أو غير ذلك من الحقوق الإنسانية، عدا أن القصيدة- لا إراديا- تربط الحياة الجميلة التي “تستحق أن تعاش”- بلغة الفلسفة- بامرأة تحبها وتحبك، ومن أجل أن تحبها يجب أن تكون ذا مال، بمعنى أن القصيدة تدفع بالقيم العليا الإنسانية الراسخة إلى الظل، بل إلى العدم، لتبرز القيم المادية والنفعية والانتهازية لتكون هي التي تتحكم بالطالب وعقله وشعوره.
لا شكّ في أن افتقار فريق التأليف إلى نقّاد معتبرين وتربويين مؤهلين تربويا في صنعة المقررات هو السبب في وجود مثل هذه النصوص في المقررات الدراسية، ناهيك عن أن التحكيم العلمي والتربوي لهذه المقررات يجب أن يستد إلى ما هو عارف على وجه التخصص العلمي المنضبط بمعنى المقرر الدراسي والصف المستهدف والطلاب وخصائصهم النمائية، وصنعة المناهج والأهداف التربوية معرفية ومهارية ووجدانية.
وعمليا، فإن التحكيم العلمي النهائي، من بعد المؤلفين، هو المسؤول عن مثل هذه المشاكل في مقرراتنا المدرسية. وقد افتقرت المقررات الفلسطينية في اللغة العربية إلى هذا النوع من التحكيم بهذه المواصفات (العلمي التربوي المنضبط بالقواعد العلمية)، ليكون بالفعل تحكيما تربويا وعلميا في الآن ذاته، يقولب عمل المؤلفين ضمن النظريات التربوية والتعليمية بمنهجية عمل صارمة وغير متسامحة مع الأذواق الشخصية للمؤلفين إذا ما كان لها مثل هذه الآثار غير التربوية.
على الرغم من كل ما سبق، فإن سقطات المقررات التربوية التعليمية في اللغة العربية كثيرة وبنيوية وإشكالية في كثير من المواقع، وليست قصيدة “أنا وليلى” إلا واحدة منها، وليس هذا محل بيانها جميعها، وسبق أن وقفتُ على بعضها في مناقشة ما ورد في المقررات من أدب غسان كنفاني، في كتابي “استعادة غسان كنفاني” (الرعاة وجسور، 2021)، وأشرت غير مرة إلى تلك الإخلالات التي انطوت عليها المقررات التعليمية للغة العربية في كتابي “بلاغة الصنعة الشعرية” (روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020)، ولكن على ما يبدو فإن القوم لا يقرؤون، وإن قرأوا لا يأخذون الأمر على محمل الجد، لأنهم ربما اعتبروا أنفسهم عباقرة، ونحن- الناقدين المنتقدين- مجرد أشخاص لا علميين ومشاكسين، لذلك لا يحفلون بما نقول، لكن أؤكد أنه بعد زمن لن يرحم التاريخ كل من تعامى عن الحقيقة، وسدر في غيه متجاهلا الرأي الآخر الذي هو العين الساهرة التي ترى الأمور من زاوية مغايرة تماما لزوايا النظر عند هؤلاء القوم.
على أية حال، أرجو أن تعير الوزارة اهتماما لما يقوله أبناؤها عن المقررات الدراسية، وتأخذ الأمر بجدية، فالأمر يستحق بعض العناء، وقليلاً من نقد الذات نقدا بناء؛ لعلنا نرى أنفسنا على ضوء الحقيقة التي لا تعنى إلا بتقديم صورها دون تضخيم أو تهوين أو توهين لعزائم المخلصين العاملين في هذا الوطن الذي يستحق منا جميعا أن يكون أفضل وأجمل في كل شيء منه وفيه.