سأخبرك عن النطف الفلسطينية المهربة من سجون الاحتلال. هل فاجأك الأمر؟

‏د. إيهاب بسيسو | فلسطين

الطفلة الجميلة ميلاد وليد دقة ابنة النطفة المحررة للأسير وليد دقة

إلى صديق يبحث عن فكرة تصلح سيناريو لفيلم جديد

ليكن ولكن تأكد لا علاقة للأمر بأفلام معينة تناولت الموضوع مؤخراً فأنا لم أشاهد أي فيلم يتحدث عن هذا الموضوع غير أنني تابعت باهتمام العديد من الحكايات التي تناولتها الصحافة حول المسألة وشعرت بحاجة للحديث عن الأمر كملحمة، أجل ملحمة انسانية تواصل فيها الإرادة الفلسطينية نحت مفاهيم متجددة للقداسة، قداسة الحياة …

ربما تعتقد أنني أرى الموضوع برومانسية زائدة، أو مخيلة مفرطة، لا بأس ولكن ماذا لو فكرت قليلاً بالأمر …

امرأة تنذر نفسها لإنجاب طفل أو طفلة من أسير من ذوي الأحكام المرتفعة، هؤلاء الذين يتهمهم الاحتلال بالعنف ضد كيان استعماري فيما يراهم شعبهم – شعبنا – بأنهم أسرى حرية رغم كل أشكال التحريض الاستعماري ضدهم، أسرى حرية شأنهم في ذلك شأن أسرى سياسات الاستعمار البغيضة في مختلف بقاع العالم وعلى مر العصور …

بالعودة إلى السيناريو، هذه المرأة تعلم أنه من العسير أن تلتقي بزوجها ما لم تحدث معجزة أو صفقة تبادل أسرى، بمعنى آخر أنهى الاحتلال باعتقال زوجها والحكم عليه بالمؤبد حياتهما وحولهما إلى “أنقاض بشرية” لا تصلح لبناء حياة قادمة …

تماماً كما يفعل في حربه المستمرة ضد المكان والشجر وكل أشكال الوجود الفلسطيني في فلسطين المحتلة …

تقرر هذه المرأة وزوجها أن تصنع المعجزة الموازية بالانجاب دون اتصال مباشر وعبر نطف مهربة …

أو  كما قال صديقي الفنان هاني خوري مؤخراً في منشور عبر الفيسبوك  إنهم “نطف محررة” …

بالمناسبة هي كذلك ” نطف محررة” إن فكرت قليلاً بالموضوع …

امراة تتخذ قراراً مثل هذا بالاتفاق مع زوج أسير على الإنجاب، يعني أعلى درجات التحدي كما يعني أيضاً حالة فريدة من حالات التوافق والانسجام والبطولة وتوحد المصير يظهر في ثناياها إرادة استثنائية في الحرص على الحرية بمفهومها الواسع ومواصلة الحياة …

على الجهة الأخرى من الحكاية وضمن ذات السيناريو يطل الأسير الذي يقضي حكماً طويلاً باعتقال يعلم منذ صدور حكم المحكمة العسكرية ضده أن الاحتلال يريد لحياته أن تتوقف بالمقياس التقليدي للحياة والزمن، فيسعى إلى تحدي هذا الموت البطيء المتمثل بالحكم الاستعماري بالمؤبد بإصرار مقدس يجعله في أحيان كثيرة يواصل مواجهة الحياة – القبر بإبداع متجدد كالدراسة والحصول على الشهادات العليا بالمراسلة وكتابة الروايات والدراسات والشعر …

على كل حال تجارب كهذه ليست جديدة ولكنها تواصل ابتكار مفاهيمها المعاصرة فلسطينياً وانسانياً بشكل واضح لذا فهي ليست غريبة عن تجارب سابقة مثل  تجارب أنطونيو جرامشي وناظم حكمت ونليسون مانديلا وغيرهم الكثيرين ممكن كتبوا من وراء القضبان …

غير أن الفلسطيني ابتكر هنا طريقة جديدة لمواصلة الحياة حين فكر في الانجاب أيضاً عبر تهريب أو تحرير النطف إلى خارج السجن …

هل تعرف ماذا يعني ذلك؟ …

يعني أن الحياة كمفهوم فلسفي وواقعي مستمرة والسجن بمفهومه الاستعماري حالة مؤقتة وزائلة، كما الاستعمار نفسه مهما طال الزمن، وبالتالي فإن الفلسطيني في جوهره لا يقبل الحياد أمام مفهوم العدم الذي يريده الاحتلال، ولا يسعى إلى تقديم عمره فريسة سهلة للاسمنت والباطون المسلح، بل على العكس تماماً يثبت كل يوم جدارته بالحرية …

تماماً كما فعل أسرى الحرية في أيلول الماضي حين انتزعوا حريتهم من معتقل جلبوع العسكري وصنعوا رواية جديدة للذاكرة …

مسألة كهذه تجعلنا نتوقف طويلاً أمام عمق الدروس الانسانية التي يقدمها الأسرى والأسيرات من خلاله تجاربهم الحياتية خلف القضبان …

السعي للحرية مسألة تتخذ أكثر من طريقة وشكل وبالتالي فإن الدرس الانساني الذي يقدمه الأسير وزوجته في إنجاب طفل أو طفلة رغم مختلف أشكال القيود يضعنا أمام بلاغة التجربة وعمقها الانساني، فالمعاناة الانسانية المصاحبة طوال الوقت لإتمام الأمر بتهريب أو تحرير النطف خارج السجن توازي الجرأة والشجاعة في مواجهة السجان والسياج …

وهذه مسألة تستحق الانتباه كثيراً والتعمق في دلالاتها وأبعادها الفكرية والنفسية والاجتماعية …

لهذا وكجزء من التفاعل الفطري مع قداسة الفكرة يتطوع المجتمع بشكل عفوي في حمايتها من أي شبهة ممكنة يحاول من خلالها الاحتلال تشويه أبعادها النضالية والانسانية …

لهذا أيضاً يتطوع المجتمع للدفاع عن عمق القيمة الانسانية في الموضوع كنوع من الحماية الاجتماعية أيضاً للحياة القادمة مع الوليد الجديد أو الوليدة الجديدة …

هل ترى براعة تحويل اللا معقول إلى معقول ممكن يجعل للحياة قيمة إضافية …

الاحتلال يريد لنا الموت ونحن نريد الاستمرار في الحياة رغم كل مسببات الموت والاضطهاد …

إن روعة الخيال هنا تكمن في تحويل الأفكار النبيلة إلى حياة تنبض بالأمل، أو حتى في نقد ممارسة قمعية بشكل إبداعي يخلق مساحة ممكنة لمقاومة القمع والاضطهاد بتحفيز الأمل عبر المخيلة لا العكس.

قد نؤذي الخيال أحياناً حين نراه مساحة فضفاضة للتجريب دون مراعاة ضرورة البحث وأهمية المثابرة في الإحاطة بأبعاد أي فكرة مهما بدت ضئيلة أو عميقة الدلالة …

قد نتفق على أن الخيال ضروري لمواصلة الحياة الفكرية والانسانية ولكن أيضلً يجتاج الخيال أن يعزز من حضوره بالبحث والدراسة، الخيال ضروري أيضاً لاستمرار فعل الحياة كفعل مقاومة ضد العدم …

وقد يعني هذا أن أخالفك الرأي إن أردت الاستناد إلى أحجية الخيال والإبداع في تمرير وجهة نظر معاكسة مما يضطرني إلى نقد خيالك إن شعرتُ بأن في خيالك الموازي نوع من التعدي أو الاستهتار أو العبث بخيال أحرص على جعله مساحة ممكنة للأمل لا لتقليص فرص الحياة …

على كل حال لن أقوم بتخوينك يا صديقي إن قمت بصناعة فيلم يشكك في هذه الملحمة كنوع من الخيال، مستفيداً من مفهوم الحرية ولكنني وباسم الحرية أيضاً لن أتفق مع سيناريو قد يقلل من بلاغة الحياة المبتكرة في نطف الأسرى المحررة …

ما رأيك لو صنعنا فيلماً يحتفي بهذه الملحمة البطولة وأطلقنا عليه اسم ” أميرة” مثلاً تيمناً بهؤلاء الأمراء والأميرات سفراء الحرية الفلسطينية؟

فيلم كهذا سينتصر بالتأكيد للخيال الذي أراده الفلسطيني أن يكون حقيقة ومعجزة …

دمت بخير …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى