حماس وترك الوهم بعد القرار البريطاني
سري سمّور | فلسطين
منذ زمن لم أعد من تلك الفئة التي تـتمنى أو تنتظر الأعداء كي يُخرجوا أسوأ ما في جعبتهم، وأن يتخلوا عن الخطابات الدبلوماسية والمراوغة السياسية ويتحدثوا عن أنفسهم بصراحة، وهذا سيفجر الطاقات الكامنة في الأمة، وسيجعلها تنتفض وتتحول إلى بركان هادر وطوفان جارف.. حقيقة تخليت عن هذه النظرية أو طريقة التفكير بحكم تجارب مريرة عشناها مكررة.
فلا وصول شارون إلى رئاسة الكيان العبري، وارتكابه المجازر بحق الشعب الفلسطيني في جنين ونابلس وغزة، ولا عربدة بوش الابن واحتلاله لبلدين مسلمين، ولا صلف وعدوانية ترامب وإعلانه عما كان أسلافه يؤجلونه بشأن القدس، ولا غير ذلك من الصدمات؛ حرّكت الأمة حراكاً يتناسب مع هذه الأحداث الجسام، وكأن قانون نيوتن الشهير “لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومعاكس له في الاتجاه” يُستثنى منه العرب، وكأننا نرجو اشتعال القش المبتل الرطب، أو شيء من هذا القبيل.
هذه المقدمة ربما ضرورية عند التعاطي مع موضوع إعلان الحكومة البريطانية حركة حماس بكاملها (كافة أجنحتها) منظمة إرهابية، وإقرار مجلس العموم ومجلس اللوردات هذا الإعلان رسمياً. وهو ما قد يعني ملاحقة الفلسطيني أو العربي أو المسلم في بريطانيا، لمجرد الاشتباه بسبب راية أو صورة.
نشادر لإفاقة سياسية
ولكن هذا القرار يجب أن يكون بمثابة “نشادر” للإفاقة من أوهام وخيالات وجري وراء سراب.
فحركة حماس بذلت جهوداً كبيرة أفقية وعمودية من أجل إقناع قادة الغرب أو من هو مؤثر فيهم بالتعامل معها، أو على الأقل عدم مناصبتها العداء. وشيء آخر بقي مضمراً؛ وهو عدم تخريب أي اتفاق داخلي بينها وبين خصمها السياسي أو تعطيل تفاهمات وطنية محلية، عبر الضغط الخفي أو المعلن.
في سبيل تحقيق تلك الأهداف أو جزء منها، يضاف إليها طبعاً محاولة كسر العزلة وعدم بقاء الغرب “أسير الرواية الصهيونية” عن فلسطين وحركات المقاومة، وبالتأكيد محاولة لكسر أو تخفيف الحصار المفروض على قطاع غزة؛ اجتمع رئيس الحركة السابق ورئيسها في الخارج حالياً، خالد مشعل، بالرئيس الأمريكي الأسبق وعرّاب كامب ديفيد، جيمي كارتر”، في 2008، والتقى كذلك في 2015 مع “توني بلير”، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، وممثل أو رئيس “الرباعية الدولية” التي زرعت بذور الانقسام السامة في الساحة الفلسطينية.
لا أملك محاضر تلك الاجتماعات وغيرها مما لم يكشف عنه مع قادة الغرب، وبعيداً عما ينشر في الإعلام، فإن “حماس” حاولت ربما الهروب أو المراوغة، أو لربما ظنت نفسها استثناء من قاعدة غربية شبه دولية: لن نعترف بكم إلا بنبذ الإرهاب، أو بعبارة أدق بتخليكم عن المقاومة تماماً.
في حالة حماس فالوضع أصعب؛ فالمطلوب منها أن يكون سقفها أدنى من سقف خصمها السياسي، لمجرد تحصيل نوع من الاعتراف بها، أيضاً لأنها حركة تحمل أيديولوجيا إسلامية سيطلب منها ربما تنازلات ومواقف كثيرة، محصلتها أن تكون حماس ليست حماس.
تجربة عرفات.. عبرة واضحة
يروى أن العاهل المغربي الراحل “الحسن الثاني” قال للرئيس الفلسطيني الراحل “ياسر عرفات” ما معناه: “هؤلاء الناس أشبه بالسحرة ذوي القدرات الخارقة، كنت بنظرهم إرهابياً، الآن تغير الحال وفتحت لك الأبواب”، في سبيل تقديم نصيحة لأبي عمار بأن يتمسك بالأمريكان كونهم يملكون أوراقا تقلب الأحوال!
نعم، كان الرئيس عرفات غير معترف به خاصة من الأمريكان، الذين رفضوا إبان انتفاضة الحجارة إعطاءه تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإلقاء كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، فتم نقل الجلسة إلى جنيف.
ولقد قام عرفات بمناورات سياسية كثيرة، وخطا خطوات واتبع تكتيكات عدة، ربما بدأت بخطابه في الأمم المتحدة في 1974، وهو ذات العام الذي أقرت فيه م.ت.ف برنامج النقاط العشر. وواصل عرفات مبادراته وتكتيكاته والتي انطوت على تنازلات كبيرة عن سياسات م.ت.ف المعلنة، وبالتأكيد عن منطلقات وروح حركة فتح، وكان من ضمنها سياسات عملية وليس مجرد تصريحات وخطابات، وهو ما أدخله إلى غزة وأريحا ونابلس وجنين وغيرها بعد توقيع اتفاق أوسلو، وما كان من تعديل الميثاق لاحقا.
وقد صرّح عرفات إبان انتفاضة الأقصى بأنه دخل البيت الأبيض 18 مرة، وهذا عدد كبير في فترة زمنية قصيرة نسبياً، ولم ينل هذا “الامتياز” ربما رؤساء دول لها علاقات مميزة مع الولايات المتحدة.
وماذا بعد ذلك؟ هل حدث اختراق في ما يسمى “عملية السلام” وماذا جرى مع “الختيار” شخصياً؟ ألم يحاصر في مقر المقاطعة في رام الله أو في ما تبقى منه بعد تدميره من قبل الجيش الإسرائيلي؟ وحتى حين كان محاصراً جاء وزير خارجية أمريكا “كولن باول” إلى مقره واجتمع به، وقد طبّل كثيرون وزمروا بأن هذا الاجتماع يعني سياسة أمريكية تختلف عن سياسة شارون تجاه الرجل.. ويمكننا أن نخمن فحوى هذا الاجتماع.
هل درست حماس تجربة عرفات، وهو أستاذ في التكتيك والمراوغة السياسية، ولا يحمل مثلها ثقل أيديولوجيا مكروهة من الغرب، بل كان قد ضمن قبل اعتراف الأمريكان به؛ اعتراف العديد من الدول الأوروبية المؤثرة مثل فرنسا، ناهيك عن كون عرفات قد نشط زمن الحرب الباردة وكانت له علاقات مع الاتحاد السوفييتي؟
هل درست حماس تجربة عرفات، وهو أستاذ في التكتيك والمراوغة السياسية، ولا يحمل مثلها ثقل أيديولوجيا مكروهة من الغرب، بل كان قد ضمن قبل اعتراف الأمريكان به؛ اعتراف العديد من الدول الأوروبية المؤثرة مثل فرنسا، ناهيك عن كون عرفات قد نشط زمن الحرب الباردة وكانت له علاقات مع الاتحاد السوفييتي؟
فهل لدى حماس وقت وظروف لخوض هكذا تجربة، في ظل وضع دولي وإقليمي معقد وهوامش المناورة تكاد لا تُرى؟ والنتيجة متوقعة، فإذا كانت الولايات المتحدة قد أغلقت مكتب م.ت.ف في واشنطن مع كل ما قدمته المنظمة من مواقف، فماذا عساه يكون الحال مع حركة حماس؟ وهي قبل أن تنال اعتراف الأمريكان عليها أن تنال الاعتراف، بل حتى مجرد الشطب من قوائم الإرهاب في بريطانيا وغيرها.
التوقف عن تقديم المبادرات ضروري
على حماس والحال كذلك أن تتوقف عن تقديم مبادرات، وأن يكف قادتها جميعاً عن إطلاق أية تصريحات يظنون أنها ستخرجهم من التصنيف الغربي ومنه البريطاني والأمريكي، لأنهم يعرفون ما هو المطلوب منهم كي “ينالوا الرضا”، وغير ذلك مجرد حرثٍ في الماء.
وبما أنهم – بالطبع – بداهة يرفضون شروط الغرب المجحفة، فيفضل والحال كذلك أن تدخر حماس وقتها وجهدها، وأن تحافظ على أعصاب وتماسك قواعدها وأنصارها، بأن تُخرج من رأسها فكرة اعتراف غربي بها في وقت لم تحقق فيه انتصاراً ملموساً على المشروع الصهيوني في فلسطين.. ليكن هذا واضحاً ومعلوماً.
ستنال اعترافهم بعد إنجاز ميداني
لا أريد أن أقول على حماس أن تحذو حذو حركة طالبان، وذلك لاعتبارات جيوسياسية معروفة، ولكن فقط أن تضيف حركة طالبان إلى نماذج أخرى في التاريخ حصّلت الاعتراف بها وجلس معها صناع السياسة في العالم بعد أن أنجزت في الميدان.
وربما يقال: وحماس أنجزت في الميدان أيضاً.
قلت: حماس أنجزت في مجال الاستراتيجية الدفاعية، ولم تستطع حتى اللحظة إجبار الاحتلال حتى على تخفيف نسبي للحصار المفروض على غزة، والذي جعل الحياة هناك جحيما لا يطاق.
وحين تنجز حماس ميدانياً وأكون على قيد الحياة سأكتب عن هذا الموضوع من الزاوية التي أصر عليها: الاعتراف بأي حركة مقاومة في العالم يكون وفق ما تحققه على الأرض من مكاسب وانتصارات، وإلا فإن الاعتراف بها مؤقت وخادع وبعد أن تخرج من جلدها وتنحرف بوصلتها تماماً.
هل كانت حماس تنتظر من بريطانيا التي أطلقت وعد بلفور، والتزمت بتنفيذه في صك الانتداب، وسهلت للعصابات الصهيونية اغتصاب الأرض الفلسطينية، وزرعت بذور التقسيم والخلاف في بلاد العرب والمسلمين موقفاً آخر تجاهها؟ لماذا؟ هل ندمت لندن على أفعالها واستيقظ ضميرها؟
آمل أن يكون ما جرى “جرعة/ صعقة/ هزة” كافية تفيق فيها حماس من الوهم وتكف عن التعلق بسراب زيّنه لها بعض من اجتمعوا مع قادتها من الغربيين، أو أوحى لها به بعض “الأصدقاء” من دول “صديقة” لحماس!